يا قفا نبك هل ترى يرجع العهد** وتبكي على الدروب الدروب
من لطائف ما أحفظ لتلك الفتاة أنها كانت آية في الصبر و الثبات و الاحتمال فهي رغم حداثة سنها و طراوة عودها لا تفتأ منكبة على كتب العلم و السير و القصص التي كنت أحضرها لها أيام السبعينات تلتهمها الواحدة بعد الأخرى و تبغي المزيد لديها ملكة الاستيعاب و القدرة على الاختزان و الجودة في الوصف و التعبير فما من موضوع ناقشته معها إلا و ألقيت لها فيه باعا و ما من أمر كتبت عنه إلا و أبدعت فيه أيما إبداع ؛ كانت تصغرني بعشر سنوات و إن أذكر لها شيئا لا أنساه فيوم تزوجت و تقرر بعد ذلك الرحيل إلى منطقة جد نائية هناك في الريف ؛ حيث السكينة المطلقة فلا مكتبات و لا صديقات ؛ و إنما الطبيعة الصلبة الجبلية و الخشونة المألوفة بين سكان أهل الريف ؛ و منطق الفتاة بعيد كل البعد عن هذا المصير الذي آلت إليه ؛ و مبدأها أنها اقترنت برجل دخل حياتها فجأة فلابد من الإخلاص و الوفاء له ؛ و الصبر على شطف الحياة و ما تأتي به المتغيرات و الظروف من مواقف و أحداث ؛ و مع ذلك صبرت و كان الصبر دوما من أخلاقها ؛ فيوم رحلت إلى الريف بكت والدتي و والدي بكاء مرا رأيت دموعا غاليات سالت من أجلها ؛ رأيت في أعين الإخوة الصغار أحاديث مليئة بالحزن مفعمة بألم الفراق ؛ و إن كان مؤقتا ؛ و ما زلت أذكر يوم ودعتها قولي لها : أيتها الأخت العزيزة أوصيك بنفسك خيرا تحلي بالصبر و الثبات و العزيمة القوية، كما كنت توريني إياها دائما ؛ لديك رصيد من الثقافة يسعفك بتسجيل كل ما تعيشيه و تشعري به سنكاتبك دائما فلا تنسي الكتاب و القلم ... و اغرورقت عيناها بسيل من الدموع لازالت صورة ماثلة بين ناظري إلى يومنا هذا ... و مرت سنة على زواجها و عاد زوجها من الخارج ليحملها إلى بلدتها تلك القديمة سيدي سليمان رفقة ابن صغير لها كله طهر و براءة كأمه و فرحت الأسرة يوما و يوما و عادت أختي إلى الريف من جديد لتشهد مراحل حاسمة في حياتها فخشونة العيش ازدادت و المعاناة اليومية تطورت و الزوج غائب في ديار الهجرة حتى أكمل الربيع دورته و أهل الصيف عام 1981 و إذا بالأسرة تنبأ بشيء ما و إذا بأبي و أمي يسافران على جناح السرعة إلى الريف لكن هيهات بعد فوات الأوان ؛ فالخبر يقول إن هذه الأخت العزيزة رحلت هذه المرة إلى جوار ربها و هي تضع مولودها الثاني ؛ ماتت جميلة و هي تقدم لهذه الدار الفانية حياة جديدة ؛ و ماذا عساه يجدي البكاء ؛ و هل تنفع كلمات الرثاء ؛ أم هل في الذكريات الحلوة العذبة القديمة بعض عزاء ؛ ماتت جميلة الجسد ؛ لكن طيفها و آثارها المنقوشة في أعماقنا لم تمت لأنها لم تكن كباقي الفتيات ؛ صمتها يغريك بالتأمل و كلامها القليل يبعث في نفسك الحبور و الانشراح ؛ هي إلى عالم العلم و المعرفة أقرب بكثير من جو التفاهة و اللعب و ما أذكر أني عنفتها في يوم من الأيام أو ضربتها لشيء ؛ فمنها تعلمت فن الكتابة ساعة رحلت أول مرة ؛ فرحمة الله عليك يا أختي العزيزة و إلى اللقاء في جنة الخلد إن شاء الله تعالى.
عبد الكريم لراك