مقدمة عامة
بسم الله الرحمان الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين.
أما بعد:
إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لا يستطيع العيش منعزلا، فكانت الجماعة أمرا لازما لعيشه، كما أنه عاجز عن إشباع جميع حاجاته بمفرده، حيث لابد له من أن يستفيد من مجهودات غيره، وطبيعته تدعوه إلى أن يختلط بغيره، فيشاركه في المعيشة ويساهم معه في النشاط ويتبادل معه النفع. ومن ثم فإن حياة الإنسان في المجتمع عبارة عن أخد وعطاء، وهو في أخده وعطائه قد تدفعه غريزته إلى الاستزادة مما له، والتخلص مما عليه ولو بدون حق أحيانا، فكان ذلك مثارا للمنازعات بين الأفراد، ولو ترك الإنسان يسير على هدي غريزته لجرى فض المنازعات عن طريق القوة الفردية ولا إلتهم القوي الضعيف. لذلك وصلت الجماعة إلى إيجاد نظام يسودها ويضمن بقائها وهو نظام القانون والذي يبين لكل فرد ما له وما عليه وينظم العلاقات بين الأفراد والجماعات.
لذلك امتنع على صاحب الحق عند المنازعة فيه أن يقضى به لنفسه وأصبح لزاما عليه الخضوع لما ينص عليه القانون. وأن الجهة الموكول لها بتطبيق القانون هي القضاء، وأن القضاء لا يستطيع أن يتوصل إلى فض المنازعات كما لا يستطيع الوصول إلى الحقيقة إلا بواسطة الحج والبراهين التي يعضد بها كل واحد من المتقاضين دعواه.
ومن هنا، تكمن أهمية البينة، باعتبارها سلاح الخصوم في معركة الخصومة القضائية، حيث تتصارع المصالح وتتقارب، ولا حاجة إلى التذليل على خطورتها في حياة البشر، إذ يكفي الإشارة إلى أنها الوسيلة التي تمكن القضاء من القيام بمهمته التي هي تحقيق العدالة وصيانة المجتمع عن طريق إيصال الحقوق لأربابها وإيقاع العقوبات على مستحقيها. كما أ،ها تعد الوسيلة التي يحافظ بها الشخص على حقوقه ويثبتها بواسطتها.
ونظرا لهذه الأهمية التي للبينات، فقد اعتنى بها الإسلام، وتضمنت أصول التشريع الإسلامية أهم القواعد التي تنظم هذه الناحية من التشريع.
واشتمل القرآن والسنة على عدد كبير من الأحكام التي تعلق بالبينات، كما أن الفقهاء المسلمون ـ رحمهم الله ـ استنبطوا كثيرا من القواعد الكلية في الإثبات تدل على شدة عنايتهم به. وهذه القواعد هي التي ستكون موضوع هذا العرض.
لكن قبل بحث ودراسة مختلف القواعد، لابد من بيان المقصود بالبينة وتحديد نطاقها وأنواعها المستقر عليها سواء في الفقه الإسلامي أو في القانون الوضعي.
أولا ـ تعريف البينة:
البينة في اللغة: وصف مؤنث. بيِن، أي: الواضحة، فهي صفة جرت على موصوف محذوف للعلم به في الكلام، أي دلالة بينة، أو حجة بينة، نقول جاء في بينة النهار أي واضحة النهار. ثم شاع إطلاق هذا الوصف، فصار اسما للحجة المثبتة للحق، التي لا يعتريها شك، وللدلالة الواضحة، وهي ما به البيان وظهور الحق.
والبينة، والدلالة، والحجة، والبرهان، والآية، والتبصرة، والعلامة، والأمارة، متقاربة في المعنى.
وفي الاصطلاح، البينة ـ أيضا ـ اسم لما يبين الحق ويظهره ويدل عليه، وهي الحجة الواضحة، قال تعالى في كتابه العزيز:"أرأيتم إن كنت على بينة من ربي".
وقد عرفت مجلة الأحكام الشرعية البينة في المادة 2145 بأنها:"العلامة الواضحة التي يترجح بها صدق أحد المتداعين".
ثانيا ـ نطاق البينة:
لقد اختلف الفقهاء في مفهوم لفظ البينة، الذي جاء في العديد من النصوص، وذلك من حيث حصره بالشهادة أو انصرافه إلى كل الحج.
فجمهور الفقهاء يذهبون إلى أن المراد من البينة الشهود، مستدلين على ذلك بأن البينة وردت في العديد نمن النصوص الشرعية بهذا المعنى، من ذلك قوله تعالى:"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون".
في حين يرى ابن القيم الجوزية أن البينة في:"كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسم لكل ما بين الحق، فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين". فالبينة عنده تعني كل ما يبين الحق ويظهره من غير أ، تكون محصورة في شهادة الشهود دون غيرها من وسائل الإثبات الأخرى. حيث يقول سبحانه وتعالى:"ولقد جاءكم موسى بالبينات"، ويقول أيضا:"لقد أرسلنا رسلنا بالبينات". فالمراد بالبينات في هاتين الآيتين وفي غيرهما، كل ما يبين الحق ويدل عليه. ويقول ابن القيم أن من خصصها بالشاهدين، أو الأربعة، أو الشاهد، لم يوف مسماها حثه، فإنها لم تأتي قط في القرآن مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادا بها الحقيقة، والدليل والبرهان، مفردة ومجموعة.
ولم يرد في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين، ولا بالنكول، ولا باليمين المردودة، ولا بأيمان القسامة، ولا بغير ذلك من كل ما يبين الحق ويظهره، كالقرائن والأمارات، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء السلف حكموا بمقتضى ذلك، ولم يحصروا وسائل الإثبات فيما ورد في القرآن، وكتب السنة والفقه زاخرة بما يدل على هذا.
بل إن من أوضح الأدلة على أن الشرع لم يحصر البينة فيما ذكر في القرآن والسنة أن عمر رضي الله عنه رجم المرأة التي ظهر بها حبل مع أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهود توفر فيهم شروط العدالة، أو بالإقرار المفسر.
وعليه، فإن البينات في الإسلام لا تنحصر في شهادة الشهود، وإنما تتعداها لتشمل الإقرار واليمين وقرائن الأحوال، إلى جانب الإثبات بواسطة الكتابة.
وإذا كانت البينة ـ كما يتضح مما سبق ـ قد حظيت باهتمام النصوص الشرعية الإسلامية، التي قررت البينة مجملة أكثر من اهتمامها بها مفصلة مع أوجه خلاف فقهية في تفاصيل مدلولها، وإن اتفقوا في مضمونها، حيث إن جمهور الفقهاء قصرها من حيث البحث على ثلاث طرق وهي الشهادة والإقرار واليمين، فإن البينة في النظم الوضعية، لم تحظى باهتمام الباحثين ولم تنص عليها القوانين مجملة، بل اهتم بها من خلال بيان وسائلها وهي طرق الإثبات.
وبالرجوع إلى القوانين الوضعية، يتضح أن البعض من تلك القوانين كالقانون المصري تحصر البينة في الشهادة، حيث تستعمل عبارة "الشهادة أو البينة"، وفي هذا الإطار يقول عبد الرزاق السنهوري أن للبينة معنيان:
"معنى عام، وهو الدليل أيا كان، كتابة أو شهادة أو قرائن، فإذا قلنا البينة على من ادعى واليمين على من أنكر فإنما نقصد هنا البينة بهذا المعنى ـ العام.
ومعنى خاص، وهو شهادة الشهود دون غيرها من الأدلة... وإذا قلنا البينة فإنما نقصد معناها الخاص، ونقصرها على الشهادة...".
وهناك من التشريعات من أطلقت "البينات" على كل وسائل الإثبات كالتشريع التونسي واللبناني، حيث ينص الفصل 427 من مجلة العقود والالتزامات التونسية، المتعلقة بتعداد وسائل الإثبات على أن:"البينات المقبولة قانونا هي..."، ثم تستعمل في الفصول الموالية عبارتي:"البينة بالكتابة" و"البينة بالشهادة" على حد سواء.
في حين أن تشريعات أخرى قد اختارت لفظة "الإثبات" للدلالة على وسائل إثبات الحق، وهذا حال التشريع المغربي والمصري والعراقي.
ومن ثمة يتضح أن البينة أو الإثبات هي الوسيلة العملية التي يعتمد عليها الأفراد في صيانة حقوقهم كما أ،ها هي الأداة الضرورية التي يعول عليها القاضي في التحقق من الوقائع القانونية.
وسواء تعلق الأمر بالإثبات في الفقه الإسلامي أو في القانون الوضعي، فإنه ليس ثمة فروق تذكر من الناحية الموضوعية في هذا المجال، وإن ظهرت هذه الفروق شكلية من تعدادها والتصريح بها ومعالجة أحكامها بأسلوب يتفق مع طبيعة كل من الفقه الإسلامي والوضعي.
وعليه، وطبقا لما سبق، تتضح الأهمية الكبيرة التي تحظى بها البينة، سواء في الفقه الإسلامي أو في القانون الوضعي. ونظرا لهذه الأهمية، فقد اهتمت النصوص الشرعية بأهم القواعد التي تنظم هذه الناحية، كما عمل الفقهاء المسلمون ـ رحمهم الله ـ على استنباط القواعد الكلية في الإثبات، تدل على شدة عنايتهم بهذا الموضوع.
وهذه القواعد هي التي سنحاول في هذا العرض معالجتها من خلال الوقوف عند أ÷م وأبرز القواعد الكلية في الإثبات أو البينة وكذا القواعد المتفرعة عنها، مبرزين أهم الاستثناءات الواردة عليها، وكذا أهم تطبيقاتها سواء على صعيد الفقه الإسلامي أو على مستو القانون الوضعي، مع العلم أنه ليست ثمة فروق تذكر بين النظامين من الناحية الموضوعية.
وكل ذلك سيكون في مبحثين على الشكل التالي:
المبحث الأول: القواعد الكلية في البينة واستثناءاتها.
المبحث الثاني: تطبيقات القواعد الفقهية للبينة.
المبحث الأول: القواعد الكلية في البينة واستثناءاتها.
إن طبيعة هذا المبحث تقتضي تناوله في مطلبين، نخصص الأول للقواعد الكلية في البينة أو الإثبات، والثاني لمعالجة أهم الاستثناءات الواردة على تلك القواعد الكلية، وذلك على الشكل التالي:
المطلب الأول: القواعد الكلية في البينة أو الإثبات.
المطلب الثاني: استثناءات القواعد الكلية في البينة.
المطلب الأول: القواعد الكلية في البينة أو الإثبات.
لقد استنبط الفقهاء المسلمون ـ رحمهم الله ـ كثيرا من القواعد الكلية في الإثبات، وسنحاول من خلال هذا المطلب دراسة أهم تلك القواعد وذلك في فقرتين.
الفقرة الأولى: قاعدة "البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
يرجع أصل هذه القاعدة إلى الحديث النبوي الذي رواه عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال، وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه"، وفي رواية أخرى:"البينة على المدعي، واليمين على من أنكر".
ومفاد هذه القاعدة ـ والحكمة منها ـ أن جانب المدعي ضعيف، لأنه يدعي خلاف الظاهر، فكانت الحجة القوية واجبة عليه ليتقوى بها جانبه الضعيف. والحجة القوية هي البينة، وجانب المدعى عليه قوي، لأن الأصل عدم المدعى به، فاكتفى منه بالحجة الضعيفة وهي اليمين.
ولذلك لا يقبل قول أحد فيما يدعيه لمجرد دعواه، لأن فيها مخالفة لحكم الظاهر فلزمته الحجة، ليقوي جانبه، ويظهر ما تصح به دعواه.
وتشتمل هذه القاعدة على مجموعة من القواعد ذكرت في كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي، واستخرجها عبد الواحد الإدريسي من خلال رسالته "القواعد الفقهية من خلال كتاب المغني لابن قدامة"، وهي القواعد التالية"
1 ـ قول الإنسان لا يقبل على غيره بمجرده:
ومعناها أنه لا قيمة لقول الإنسان، ولا اعتبار له فيما يدعيه على غيره، إذا لم يثبت دعواه ببينة، ولم يعضد قوله بأدلة معتبرة، فإن الإنسان في نظر الشريعة بريء حتى تثبت تهمته، ولا تثبت التهمة بمجرد القول العاري من البينة والبرهان، وإلا ادعى قوم دماء الناس، وأموالهم، فيقضى لهم بمجرد دعواهم، وليس هذا من شرع الله، الذي هو مبني على القسط والعدل الذي قامت به السماوات والأرض.
2 ـ ما لا يقضى به بالنكول لا يلزم منه اليمين:
أي أن المدعى عليه لا يجب عليه الحلف، ولا يضره إذا لم يحلف فيما لا يقضى به بالنكول، فلا فائدة بإيجاب اليمين فيما لا يقضى فيه بالنكول.
والذي جاءت به الشرعية، أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعين، فأي الخصمين ترجح جانبه، جعلت اليمين من جهته، وهذا ما تنبه إليه القاعدة التي تقول بأن:"الأيمان بمنزلة البينة".
3 ـ الأيمان كلها على البث لا على نفي فعل الغير:
أي يجب أن يكون الحالف قاطعا جازما، لا يأتي بما يفيد الظن، والاحتمال، ولا يحلف على غير المحل المطلوب، كنفي فعل غيره. جاء في المادة 2375 من مجلة "الأحكام الشرعية" أ،ه:"إذا حلف المدعى عليه على فعل نفسه، أو على دعوى عليه، حلف على البث، أما لو حلف على نفي فعل غيره، أو على نفي دعوى الغير، حلف على نفي العلم".
الفقرة الثانية: قاعدة "البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة".
"البينة حجة متعدية"، أي أن البينة حجة على من قامت عليه وعلى غيره، أي هي متجاوزة إلى غير من قامت عليه وملزمة له.
و"الإقرار حجة قاصرة" على نفس المقر لا تتجاوزه إلى غيره، لأن كونه حجة يبنى على زعمه، وزعمه ليس بحجة على غيره، ولأن المقر لا ولاية له إلا على نفسه، فله أن يلزم نفسه بما شاء، وليس له سلطة على إلزام غيره، وأيضا يحتمل أ، يكون المقر كاذبا في إقراره ومتواطئا مع المقر له لإضاعة حق شخص ثالث.
وجه الاختلاف بين الأمرين، أولا: أن البينة لا تصير حجة إلا بقضاء القاضي، وبما أن للقاضي ولاية عامة فينفذ قضاؤه في حق الجميع. وثانيا: أن الدلالة بالبينة كالدلالة بالحس شرعا، وما يثبت عن طريق الحس والمشاهدة ينسحب حكمه على سائر الناس، فالحكم على أحد الورثة بدين على مورثهم، يتعدى إلى جميعهم.
وأما المقر، فله ولاية على نفسه دون غيره، فتبقى هذه الحجة مقصورة على صاحبها مع قوتها.
الفقرة الثالثة: قاعدة "لا حجة مع تناقض لكن لا يختل معه حكم الحاكم".
التناقض المقصود في هذه القاعدة هو تناقض الشاهد فيس شهادته المثبتة للدعوى، فإذا وقع التناقض في شهادة الشاهد قبل القضاء بها انعدم الاحتجاج بشهادته، وامتنع القضاء بها، وأما إذا ظهر التناقض في البينة بعد القضاء بها، فإن القضاء الواقع لا يبطل، بل يضمن الشهود للمحكوم عليه ما حكم عليه، وإنما لا يختل حكم الحاكم لأن القضاء يصان عن الإلغاء.
ويشترط في رجوع الشاهد أن يكون أمام القاضي، فلو ظهر الرجوع خارج مجلس القضاء، فلا عبرة لرجوعه لا قبل الحكم ولا بعده.
فلا حجة مع التناقض أي لا تعتبر الحجة، ولا يعمل بها مع قيام التناقض فيها، أو في دعوى المدعي، ولكن إذا وقع التناقض في الحجة، أي الشهادة، بعدما حكم بها القاضي فلا يختل معه حكم الحاكم، والتناقض إما أن يكون في الدعوى فقط، أو في الشهادة فقط، أو بين الدعوى والشهادة.
الفقرة الرابعة: قاعدة "الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان".
المراد بالبرهان، الأدلة القضائية التي تسمى، البينات، أي أن ما ثبت لدى القاضي في مجلس القضاء بالبينة من الحوادث الشرعية يعتبر أمرا واقعا كأنه محسوس شاهد بالعيان، فيقضي به اعتمادا على هذا الثبوت، وإن كان هناك احتمال خلافه بسبب من الأسباب، ككون الشهود كذبة مستترين بالصلاح، أو نحو ذلك من الاحتمالات، لأن كل هذه الاحتمالات تبقى في حيز الموهومات بالنسبة للبينة الظاهرة، فلا عبرة للتوهم، وأن مهمة القضاء البناء على ما يظهر ويثبت، وليس القاضي مكلفا باكتناه الحقائق من الواقع، فإن هذا ليس في طاقته.
فكما أن الأمر المشاهد بحاسة البصر لا يسع الإنسان مخالفته فكذلك ما ثبت بالبينة المزكاة لا تسوغ مخالفته، لأن البينة كاسمها مبينة، والفرق بينهما أن ما كان قائما مشاهدا لا تسمع دعوى ما يخالفه، ولا تقام البينة عليه، ولا على إقٌرار، كما لو ادعى أخر أنه قتل مورثه، وهو حي، بخلاف ما كان أمرا منقضيا وثبت بالبينة، فإنه تسمع دعوى ما يخالفه، كما لو ادعى شخص على آخر دينا، فأثبته بالبينة، فادعى عليه المدعى عليه أنه أقر بأن لا شيء عليه، فإنها تسمع.
الفقرة الخامسة: قاعدة "البينة لإثبات خلاف الظاهر واليمين لإبقاء الأصل".
تفيد هذه القاعدة أن "البينة" شرعت "لإثبات خلاف الظاهر". بمعنى خلاف الأصل كإضافة الحادث إلى أبعد أوقاته، وكعدم بقاء ما كان، وكوجود الصفات العارضة، وكشغل الذمة، فإن كل ذلك خلاف الأصل، الذي هو إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، وبقاء ما كان عليه، وعدم وجود الصفات العارضة، وبراءة الذمة، فلا يحكم بخلاف الأصل إلا بالبينة.
أما "اليمين" فشرعت لإبقاء الأصل على ما كان عليه من عدم، إن كان الأصل عدم المتنازع فيه، كالصفات العارضة، أو وجود، إن كان الأصل ودود المتنازع في كل الصفات الأصلية. فإذا تمسك أحد المتخاصمين بما هو الأصل وعجز الآخر عن إقامة البينة على ما ادعاه من خلافه، يكون القول قول من يتمسك بالأصل بيمينه، لأن الأصل يؤيده ظاهر الحال فلا يحتاج إلى مؤيد، أما الذي يدعي خلاف الظاهر فأمره يحتمل الصدق، والكذب فيحتاج إلى مؤيد وهو البينة.
هكذا، وبعد أن انتهينا من دراسة أهم القواعد الكلية في البينة، ننتقل إلى دراسة أهم الاستثناءات الواردة على هذه القواعد الكلية، وذلك في المطلب الثاني من هذا المبحث.
المطلب الثاني: استثناءات القواعد الكلية في البينة.
بعد أن بينا في المطلب الأول من هذا العرض أهم القواعد الكلية في الإثبات أو البينة، وحددنا معناها، سنقوم في هذا المطلب بإبراز أهم الاستثناءات التي ترد على تلك القواعد الكلية وذلك تباعا كالتالي:
الفقرة الأولى: استثناءات من قاعدة "البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
إذا كانت القاعدة هي أن البينة على المدعي لكون جانبه ضعيف لأنه يدعي خلاف الظاهر، وأن اليمين على المدعى عليه لكون جانبه قوي، وإذا كان ضابط من يحلف أنه كل من توجهت عليه دعوى لو أتى بمطلوبها ألزم به فإذا أنكر يحلف عليه ويقبل منه، فإنه يستثنى من هذا الضابط صور ذكرها السيوطي ـ رحمه الله ـ في مؤلفه "الأشباه والنظائر"، نذكرها كالتالي:
ـ أن الشاهد لا يحلف أنه لم يكذب.
ـ أن المدعي لو قال أنا صبي لم يحلف ويوقف حتى يبلغ.
ـ أن منكر العتق إذا ادعى على من هو في يده أنه أعتقه وآخر أنه باعه منه فأقر بالبيع فإنه لا يحلف للعبد.
ـ إذا ادعت الجارية الإستيلاد وأنكر السيد أصل الوطء، فالأصح أنه لا يحلف.
ـ لو حضر عند القاضي وأدعى أنه بلغ رشيدا وأن أباه يعلم ذلك وطلب يمينه لا يحلف الأب على الصحيح مع أنه لو أقر بذلك انعزل عنه.
ـ لو اكترى من يحج عن أبيه مثله فقال المكري حججت، فيقبل قوله ولا يمين عليه ولا بينة لأن تصحيح ذلك بالبينة لا يمكن وكذا لو قال للأجير قد جامعت في إحرامك فأفسدته لم يحلف أيضا ولا تسمع هذه الدعوى، فلو أقام بينته بجماعه فقال كنت ناسيا قبل قوله ولا يمين عليه، وصح حجه واستحق الأجرة.
وكذا لو ادعى أنه جاوز الميقات بغير إحرام وقتل صيدا في إحرامه ونحو ذلك لم يحلف لأنه من حقوق الله تعالى وهو أمين في ذلك.
الفقرة الثانية: استثناءات من قاعدة "البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة".
رأينا أن البينة حجة متعدية وأن الإقرار حجة قاصرة على المقر وحده دون غيره، فإن لهذه القاعدة عدة استثناءات، يتعدى فيها الإقرار على غير المقر، وهي كالتالي:
1 ـ لو أقر المؤجر بدين لا وفاء له إلا ببيع العين المأجورة، فإن الإجارة تفسخ، ويباع المأجور لوفاء الدين.
2 ـ لو كان شيء في يد رجل، فادعاه اثنان بالشراء منه، كل على حدة، أو ادعى كل مكنهما أنه رهنه منه وسلمه إياه، أو ادعى أحدهما الشراء والآخر الرهن، ولا بينة في جميع ذلك، فأقر ذو اليد لأحدهما، يمنع الآخر بمجرد إقراره للأول، ولا يستحلف له.
3 ـ لو أقر الأب عل ابنته البكر بقبضه مهرها من زوجها، فإنه حجة عليها، وتبرأ به ذمة الزوج، وهذا مبني على أن للأب قبض مهر ابنته البالغة بحسب العرف والعادة، وأن ملك حق القبض ملك الإقرار به.
4 ـ لو أقر اثنان من الورثة بولد المتوفى، فإنه يثبت نسبه في حق غيرهم من الورثة، وفي حق الناس كافة، ولا يحتاج في ذلك للفظ الشهادة، ولا إلى مجلس القضاء على الأصح.
5 ـ وكيل البيع لو أقر بقبض مكله الثمن يبرأ المشتري كما لو أقر بقبضه بنفسه، شريطة أن يكون الموكل سلم المبيع إلى وكيل البيع، وللموكل أن يحلف الوكيل على ما زعم من أنه، أي الموكل قبض الثمن من المشتري، فإن حلف برئ هو أيضا، وإن نكل ضمن للموكل.
الفقرة الثالثة: استثناءات من قاعدة "لا حجة مع التناقض لكن يختل معها حكم الحاكم".
ترد على هذه القاعدة جملة من الاستثناءات وهي كالتالي:
1 ـ لو استأجر شخص دارا، ثم بعد الاستئجار علم أنها منتقلة إليه بالإرث، وأذعن بذلك، فإن دعواه تسمع، لأن هذا التناقض من محلات الخفاء.
2 ـ لو اختلفت الزوجة مع زوجها على بدل دفعته له، ثم كان طلقها قبل الخلع ثلاثا مثلا، فبرهنت على ذلك، تقبل بيمينها، وتسترد البدل وهذا بخلاف ما لو أذعن نكاحها، فأنكرت فصالحها على بدل على أن تقر بالنكاح، ثم وجد بينة على النكاح الأولى المدعى، لا يرجع بالبدل لأنه كزيادة في المهر.
3 ـ لو ادعى شخص عينا في يد آخر أنها ملكه، فأجاب المدعى عليه بقوله: إن العين كانت ملك فلان، وأني اشتريتها منه، وأقام المدعي البينة على دعواه وحكم له بالعين، رجع المدعى عليه على بائعه بالثمن، لأن التناقض الذي وقع بين إقراره بكون العين للبائع، وبين رجوعه بالثمن بعد الحكم قد ارتفع بتكذيب الحاكم له في إقراره، فالمتناقض إذا صار مكذبا شرعا بتكذيب الحاكم له يرتفع التناقض.
لكن هذا مقيد بما إذا كان المتناقض يجري في رجوعه عن تناقضه على ما قامت عليه البينة كما في المثال السابق، أما إذا كان يريد أن يجري على خلاف ما قامت عليه البينة، فإنه لا يسمع منه ذلك ولا تقبل بينته.
الفقرة الرابعة: استثناءات من قاعدة "الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان".
ثمة مستثنى لهذه القاعدة، ويتمثل فيما لو أنكر المدعى عليه المال، وحلف بالطلاق على ذلك، فأقام المدعي شاهدين شهدا بإقراضه له، لم يحنث، لأن بالشهادة على الإقراض لم يتحقق قيان الدين حين الحلف.
الفقرة الخامسة: استثناء من قاعدة "البينة لإثبات خلاف الظاهر واليمين لإبقاء الأصل".
خرج عن هذه القاعدة مسائل أهمها ما يلي:
1 ـ لو رجع الواهب في هيبته، وطالب القضاء له باستردادها، فزعم الموهوب له هلاك الهبة فالقول له في الهلاك بلا يمين.
2 ـ إذا ادعى المودع رد الوديعة أو هلاكها، فالقول قوله، مع أن كلا من الرد والهلاك عارض والأصل عدمه، وخرجت عن القاعدة لأن مدعي الهلاك أو الرد إنما هو الحقيقة منكر لما يدعيه المدعي من الضمان.
3 ـ إذا اختلف في الصحة والمرض، فالقول قول من يدعي المرض، والبينة بينة من يدعي الصحة، مع أ، المرض عارض، والأصل الصحة، وخرجت عن القاعدة لأنه إنما هو في الحقيقة منكر موجب عقد المريض.
4 ـ لو اختلف في العقل والجنون، فالقول قول من يدعي الجنون، والبينة بينة من يدعي العقل، لأن مدعي الجنون إنما هو في الحقيقة منكر لما يدعيه المدعي من الضمان.
5 ـ لو اختلف في القدم والحدوث، فالقول قول من يدعي القدم والبينة بينة من يدعي الحدوث، لأن من يدعي القدم إنما هو في الحقيقة منكر حق إزالة ما يدعي حدوثه.
المبحث الثاني: تطبيقات القواعد الفقهية للبينة.
لقد دأب الفقهاء المسلمون ـ رحمهم الله ـ أثناء معالجتهم للقواعد الفقهية بعد توضيحهم لها، وإبراز المستثنى منها، أن يبينوا أهم تطبيقاتها، ولم يخرجوا عن ذلك أثناء بحثهم للقواعد الكلية في البينة، حيث بينوا أبرز تطبيقاتها، وهذه التطبيقات هي التي سنتولى بحثها في هذا المبحث دون أن نغفل إبراز أهم تطبيقات البينة في القانون الوضعي، مع العلم أنه ليس ثمة فروق تذكر في الإثبات من الناحية الموضوعية بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي. وتبقى الفروق في الشكل وكيفية معالجة طرق الإثبات بكيفية توافق كل من طبيعة الفقه الإسلامي والقانون الوضعي.
وعليه، سيكون بحثنا لهذا المبحث في مطلبين على الشكل التالي:
المطلب الأول: تطبيقات قواعد البينة في الفقه الإسلامي.
المطلب الثاني: تطبيقات قواعد البينة في القانون الوضعي.
المطلب الأول: تطبيقات قواعد البينة في الفقه الإسلامي.
الفقرة الأولى: تطبيقات قاعدة " البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة".
من أبرز تطبيقات هذه القاعدة، نذكر ما يلي:
1 ـ أنه إذا ثبت الدين على التركة بالبينة يثبت في حق جميع الورثة، سواء كان الثبوت بمواجهة الوصي أو بمواجهة أحد الورثة.
2 ـ أنه إذا ثبت الاستحقاق بالبينة، فإنه يثبت في حق ذي اليد، وفي حق من تلقى ذو اليد الملك منه، فلا تسمع دعوى بائعه الملك على المستحق، (إلا دعوى النتاج، أو دعوى تلقي الملك منه مباشرة أو بالواسطة)، لأنه صار مقضيا عليه، لكنه بشرط أن يكون المستحق عليه قد ادعى حين الخصومة قبل الحكم باستحقاق الملك بالتلقي منه.
3 ـ يصح إقرار بلا وجود منازع ولا مواجهة خصم.
4 ـ يقتصر إقرار الوارث بدين على التركة على نفسه فقط.
5 ـ أن إقرار المستحق عليه بالعين المستحقة يقتصر على نفسه، فينفذ إقرار الوارث على نفسه بقدر رخصته، ولا يرجع المستحق عليه على بائعه بالثمن، وتسمع دعوى بائعه بالملك المطلق على المستحق.
6 ـ أن إقرار الوصي والمتولي على التركة والوقف يقع باطلا.
الفقرة الثانية: تطبيقات قاعدة "لا حجة مع التناقض لكن يختل معها حكم الحاكم".
لهذه القاعدة مجموعة من التطبيقات نبينها كالتالي:
1 ـ قد يحدث أن يشهد شاهدان في دعوى الدين، ويكون ذلك الدين قرضا مثلا، ثم قال: إنه ثمن مبيع، فإن الاحتجاج بالشهادة ينهدم ويمتنع القضاء بها.
2 ـ إذا رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإن هذه الشهادة لا تبقى حجة، لكن لو كان القاضي حكم بما شهدا به أولا، فإنه لا ينقض حكم ذلك الحاكم، وإنما يلزم على الشاهدان ضمان المحكوم به، وكذا لو اعترفا بما يكذب شهادتهما بعض القضاء.
3 ـ لو أن شخص أقر بأنه استأجر دارا، ثم ادعى أنها ملكه، فإن دعواه لا تسمع، لوقوع التناقض في الدعوى فترد ابتداء، ولا تسمع حتى يمكن التوصل إلى إقامة الحجة عليها، إلا إذا كان التناقض يمكن رفعه، مثلا إذا دفعه، كأن قال: كنت مستأجرا ثم اشتريتها، حيث دعواه ـ هنا ـ تسمع
4 ـ أنه لو ادعى شخص على آخر ألفا ثمن مبيع، فشهد الشهود بأنه قرض، أو ادعى تملك الشيء بالإرث من والده، فشهدوا أنه تملك بالإرث من أمه، أو ادعى بألف درهم، فوافق أحد الشهود وخالف الآخر فشهد أنها ألف دولار، ونحو ذلك، فإن البينة في جميع ذلك لا تعتبر لوجود التناقض بين الشهادة ودعوى المدعي.
الفقرة الثالثة: تطبيقات قاعدة "البينة لإثبات خلاف الظاهر واليمين لإبقاء الأصل".
لهذه القاعدة مجموعة من التطبيقات، نذكر أهمها فيما يلي:
1 ـ إذا ادعى شخص إضافة الحادث إلى أبعد أوقاته فعليه البينة، لأن ذلك خلاف الأصل، فإن الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته.
2 ـ إذا ادعى عدم بقاء ما كان فعليه البينة، لأن ذلك خلاف الأصل الذي هو بقاء ما كان على ما كان.
3 ـ إذا ادعى وجود الصفات العارضة، فعليه البينة، لأن ذلك خلاف الأصل الذي هو عدم وجود الصفات العارضة، فالأصل فيها العدم.
4 ـ إذا ادعى شغل الذمة فعليه البينة، لأن ذلك خلاف الأصل الذي هو براءة الذمة فلا يحكم بخلاف الأصل إلا بالبينة.
5 ـ لو كان الأصل في الأشياء الخصوص كالوكالة والعارية، فادعى العموم، فإنه لا يحكم فيها بخلاف الأصل إلا ببينة.
6 ـ لو كان الأصل في العقود العموم كالمضاربة والشركة، فادعى الخصوص، فإنه لا يحكم فيها بخلاف الأصل إلا ببينة.
7 ـ إذا تمسك أحد المتخاصمين بما هو الأصل، وعجز الآخر عن إقامة البينة على ما ادعاه من خلافه، فإن القول قول من يتمسك بالأصل مع يمينه.
الفقرة الرابعة: تطبيقات قاعدة "الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان".
لهذه القاعدة تطبيقات نذكر منها: التطبيقين التاليين:
1 ـ أنه إذا ثبت إقرار المدعى عليه مثلا بالبينة، فإنه يحكم عليه بمنزلة ما إذا أقر بالحضرة والمشاهدة.
2 ـ في حالة ثبوت الدين المدعى، أو البيع، أو الكفالة، أو الغصب، أو الملك مثلا، بالبينة، فإنه يحكم به منزلة ما إذا شوهد بالحس.
المطلب الثاني: تطبيقات قواعد البينة في القانون الوضعي.
في البداية نشير إلى أن المشرع المغربي لم يحدد سواء في ق.ل.ع أو في غيره من فروع القانون الأخرى المقصود بالبينة، وإنما حدد وسائل الإثبات وذلك في المادة 404 من ق.ل.ع، حيث جاء في هذه المادة أن:
"وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي:
1 ـ إقرار الخصم.
2 ـ الحجة الكتابية.
3 ـ شهادة الشهود.
4 ـ القرينة.
5 ـ اليمين والنكول عنها".
إلى جانب طرق أخرى حددها المشرع في ق.م.م منها المعاينة والخبرة القضائية.
وفي الفصل 399 من ق.ل.ع أقر المشرع المغربي على غرار الثابت في الفقه الإسلامي، قاعدة عامة مفادها أن:"إثبات الالتزام على مدعيه:، فالقاعدة أن البينة على المدعي. وكما هو الشأن في الفقه الإسلامي فإن مسأـلة تعيين من يكلف بالإثبات يسيطر عليها مبدأ احترام الوضع الثابت الذي قد يثبت للشخص بصفة أصلية أو عرضية أو بحسب الظاهر، فعلى من يدعي خلاف هذا الوضع الثابت أصلا أو عرضا أو ظاهرا أن يثبت ما يدعيه، أما المدعى عليه فلا يكلف بدليل لاستفادته من الوضع الثابت له، فيكسب الدعوى إذا عجز المدعي عن الإثبات.
وبعدما أكد المشرع على إثبات الالتزام على مدعيه، نص في المادة 400 على أنه إذا أثبت المدعي وجود الالتزام، كان على من يدعي انقضائه أو عدم نفاذه اتجاهه أن يثبت ادعاءه.
هذا، ويقسم الفقه القانوني البينات على أساس اختلافهما من حيث قبولها في الإثبات إلى أدلة مطلقة وأدلة مقيدة، مع الإشارة إلى أن هناك عدة تقسيمات أخرى مختلفة، فالأدلة المطلقة هي تلك التي تقبل لإثبات جميع الوقائع سواء أكانت تصرفات قانونية أو وقائع مادية، وهذه الأدلة هي الكتابة والإقرار واليمين.
أما الأدلة المقيدة فهي التي تقبل لإثبات الوقائع المادية دائما لكنها لا تقبل لإثبات التصرفات القانونية في جميع الأحوال، وهذه الأدلة هي شهادة الشهود والقرائن.
والأصل هو اعتبار وسائل الإثبات مطلقة، وأن تقييد الدليل لا يكون إلا بنص القانون على عدم قبوله لإثبات بعض الوقائع، على ما يقضي به الفصل 401 من ق.ل.ع.
والأصل في إثبات التصرفات القانونية أن يكون بالكتابة، والاستثناء هو جواز الإثبات بالشهادة بالنسبة إلى التصرفات التي تتجاوز قيمتها 10.000 درهم، فالكتابة تجوز في إثبات جميع الوقائع القانونية، أما الشهادة فلا تجوز في الإثبات إلا بالنسبة لبعض الوقائع القانونية دون البعض الآخر.
وقد جعل المشرع الكتابة حجة بذاتها ما لم ينكرها الخصم أو يدع تزويرها، بينما الشهادة تكون خاضعة لتقدير القاضي يأخذ بها إذا اقتنع بها ويطرحها إذا تصرف إليه الشك فيها، ولا يتقيد في تقديره لقيمتها بعدد الشهود ولا بصفاتهم الشخصية، وهو في تقديره هذا لا يخضع لرقابة المجلس الأعلى. وقد قضى هذا الأخير بأن ما تضمنته تصريحات الشهود موكول لقضاة الموضوع وغير خاضع لرقابة قاضي النقض.
وعليه، طبقا للمادة 443 المعدلة، فإن الاتفاقات وغيرها من الأفعال القانونية التي يكون من شأنها أن تنشئ أو تنقل أو تعدل أو تنفي الالتزامات أو الحقوق أو التي يتجاوز مبلغها أو قيمتها عشرة آلاف درهم لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود، بل لابد أن تحرر بها حجة رسمية أو عرفية.
وقد جاء المشرع بعد تقريره هذه القاعدة، ليورد في المادة 448 الاستثناءين الواردين على القاعدة المذكورة وفيهما يقبل الإثبات بشهادة الشهود، حيث يشكلان أهم تطبيقات البينة بالشهادة ويتحققان في فرضيتين هما:
الفرضية الأولى: في كل حالة يفقد فيها الخصم المحرر الذي يتضمن الدليل الكتابي لالتزام له، أو للتحلل من التزام عليه، نتيجة حادث فجائي، أو قوة قاهرة أو سرقة.
الفرضية الثانية: كلما تعذر على الدائن الحصول على دليل كتابي لإثبات الالتزام كالحالة التي تكون فيها الالتزامات ناشئة عن شبه العقود وعن الجرائم والحالة التي يرد فيها إثبات وقوع غلط مادي في كتابه الحجة أو حالة الوقائع المكونة للإكراه أو الصورية أو الاحتيال أو التدليس التي تصيب الفعل القانوني وكذلك الأمر بين التجار فيما يخص الصفقات التي لم تجر العادة على تطلب الدليل الكتابي لإثباتها.
هذا فيما يخص الشهادة، أما فيما يتعلق بالقرائن، فثمة عدة تطبيقات للقرائن القانونية، فمثلا المشرع قد يرى أن الإثبات يتعذر في بعض الحالات إلى درجة كبيرة، فيقيم قرينة يخفف بما عبء الإثبات عن المدعي، مثال ذلك أن مسؤولية المكلف بالرقابة عن الضرر الذي يحدثه من هو تحت رقابته تقوم على خطأ مفترض في القيام بواجب الرقابة، فقد رأى المشرع أن المضرور يصعب عليه إثبات هذا الخطأ في أغلب الحالات فجعل قيام الالتزام بالرقابة قرينة على خطأ متولي هذه الرقاب.
وكذلك قد يستخلص المشرع القرينة من أحوال الناس وطبائعهم وعاداتهم في التعامل، فمثلا جعل المشرع إرجاع الدائن اختيارا إلى المدين السند الأصلي قرينة على حصول الإبراء من الدين، لأن المألوف عادة بين الناس أن الدائن لا يسلم للمدين السند الأصلي للدين إلا إذا قام المدين بالوفاء.... والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي منها بما تم لإيراده.
وإذا تم التسليم بأنه لا خلاف فيما يخص وسائل الإثبات سواء في الميدان المدني أو التجاري، فثمة بعض الخصوصيات فيما يخص الميدان التجاري، فرضتها طبيعة هذا الميدان، من ذلك مثلا: ما تقضي به المادة 334 من مدونة التجارة من أ، المادة التجارية تخضع لحرية الإثبات وأنه يتعين الإثبات بالكتابة كلما نص القانون أو الاتفاق على ذلك. ففي غياب نص قانوني أو اتفاق يقضي بالإثبات بالكتابة، نكون أمام حرية مطلقة للإثبات، فيجوز إذاك إثبات المسائل التجارية بالشهادة وغيرها من وسائل الإثبات الأخرى أيا كانت قيمة الالتزام وكل ذلك انسجاما مع ما تفرضه المعاملات التجارية من سرعة وبساطة.
وأخيرا، نؤكد ما سبق تقريره بداية، من أنه لا فروق تذكر من الناحية الموضوعية في الإثبات في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، وتبقى الفروق في الشكل من حيث تعداد تلك الوسائل والتصريح بها ومعالجة أحكامها بأسلوب يتفق مع طبيعة كل من الفقه الإسلامي والقانون الوضعي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المراجع المعتمدة
أحمد بن عبد الله القاري، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، دراسة وتحقيق عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان و محمد إبراهيم أحمد علي، الطبعة الأولى، الناشر تمامة، جدة، المملكة العربية السعودية، 1981.
إدريس العلوي العبدلاوي، وسائل الإثبات في التشريع المدني المغربي، الطبعة الأولى، المطابع الفرنسية والمغربية، الرباط، 1971.
الإمام جلال الدين السيوطي، الأشباه والنظائر في الفروع، دار الفكر للطباعة والنشر، دون ذكر تاريخ النشر.
سنن الترمذي، الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.
الشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية، الطبعة الثانية، دار القلم، دمشق، 2009.
صحيح مسلم، اللفظ في الأقضية، باب الحكم بالظاهر، واللحن بالحجة.
عبد الرحمان عبد العزيز القاسم، الإثبات والتوثيق أمام القضاء، بحث فقهي قانوني مقارن، طبعة 1982.
عبد الواحد الإدريسي، القواعد الفقهية من خلال كتاب المغني لابن قدامة، دار ابن القيم ودار ابن العفان، طبعة 2004.
على أحمد الندوي، القواعد الفقهية، دار القلم ، دمشق، ط 1، 1986.
محمد الزحيلي، القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي.
محمد بن معجوز، وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي، مطبعة النجاح الجديدة، طبعة 1995.
محيي هلال سرحان، القواعد الفقهية ودورها في إثراء التشريعات الحديثة، طبعة 1986.
مجلة القضاء والقانون، عدد 65-66-67.
الفهرس
مقدمة عامة 1
أولا ـ تعريف البينة: 2
ثانيا ـ نطاق البينة: 3
المبحث الأول: القواعد الكلية في البينة واستثناءاتها. 6
المطلب الأول: القواعد الكلية في البينة أو الإثبات. 6
الفقرة الأولى: قاعدة "البينة على المدعي واليمين على من أنكر". 6
1 ـ قول الإنسان لا يقبل على غيره بمجرده: 7
2 ـ ما لا يقضى به بالنكول لا يلزم منه اليمين: 7
3 ـ الأيمان كلها على البث لا على نفي فعل الغير: 7
الفقرة الثانية: قاعدة "البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة". 8
الفقرة الثالثة: قاعدة "لا حجة مع تناقض لكن لا يختل معه حكم الحاكم". 8
الفقرة الرابعة: قاعدة "الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان". 9
الفقرة الخامسة: قاعدة "البينة لإثبات خلاف الظاهر واليمين لإبقاء الأصل". 10
المطلب الثاني: استثناءات القواعد الكلية في البينة. 10
الفقرة الأولى: استثناءات من قاعدة "البينة على المدعي واليمين على من أنكر". 11
الفقرة الثانية: استثناءات من قاعدة "البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة". 12
الفقرة الثالثة: استثناءات من قاعدة "لا حجة مع التناقض لكن يختل معها حكم الحاكم". 13
الفقرة الرابعة: استثناءات من قاعدة "الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان". 13
الفقرة الخامسة: استثناء من قاعدة "البينة لإثبات خلاف الظاهر واليمين لإبقاء الأصل". 14
المبحث الثاني: تطبيقات القواعد الفقهية للبينة. 15
المطلب الأول: تطبيقات قواعد البينة في الفقه الإسلامي. 15
الفقرة الأولى: تطبيقات قاعدة " البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة". 15
الفقرة الثانية: تطبيقات قاعدة "لا حجة مع التناقض لكن يختل معها حكم الحاكم". 16
الفقرة الثالثة: تطبيقات قاعدة "البينة لإثبات خلاف الظاهر واليمين لإبقاء الأصل". 17
الفقرة الرابعة: تطبيقات قاعدة "الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان". 18
المطلب الثاني: تطبيقات قواعد البينة في القانون الوضعي. 18
المراجع المعتمدة 22
الفهرس 23