مقدمة
إعداد الطالب سعيد الزعيم
لم يكن في المراحل التاريخية الأولى لتطور الحقوق الجزئية من شيء يسمى الركن المعنوي للجريمة فالشخص عندما يقترف فعل مادي مجرم حسب الشريعة التي تحكم مجتمعه كان يعتبر مجرما وتوقع بحقه العقوبة المقررة لذلك الجرم بل أحيانا كانت تفرض بحقه عقوبات جزافية حسب ما يريده الحاكم أو السلطة صاحبة الحق في العقاب , ودون تميز بين عاقل وبين مجنون أو إنسان وحيوان. 1
ولكن في المراحل التالية لتلك الحقبة أخذت التشريعات الجزائية بالتطور شيئا فشيئا فبدءت تبحث وتهتم بشخصية مقترف الجرم , حتى وصلت إلى مرحلة من التطور حددت فيها الجريمة بثلاث أركان . الركن الأول الركن الشرعي للجريمة ويتمثل بالقاعدة القانونية التي تحدد النموذج القانوني للجريمة حسب ما يضعه المشرع الركن الثاني هو الركن المادي ويتمل بالأفعال المادية المجرمة حسب ما تنص عليه القاعدة القانونية الركن الثالث الركن المعنوي للجريمة وهو بيت القصيد وهو الحالة النفسية والذهنية للفاعل أثناء اقترافه للجريمة . فلم تعد التشريعات الجزائية تكتفي بوجود فعل مادي مجرم لقيام المسؤولية الجزائية بحق الفاعل بل لابد من التعرف على الحالة النفسية للفاعل المرافقة لاقترافه الجرم والتي من خلالها يستطيع القاضي التعرف إلى مدى خطورة الفاعل والعقوبة المناسبة للحد من خطورته و إصلاح حاله إن أمكن2 لكن الإشكال يثور عندما نتحدث عن الركن المعنوي في الجرائم الشكلية علما أن هذه الجرائم من جرائم الخطر
____________________
1. مجالي نظام توفيق ؛ شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، النظرية العامة للجريمة ، مكتبة دار التقافة والنشر ، طبعة 1998 ص 7
2. أشرف توفيق شمس الدين ، شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، النظرية العامة للجريمة والعقوبة ، دار النهظة العربية ، الطبعة الأولى 2008 ص.12
التي لا تتطلب تحقق نتيجة خاصة أمام صعوبة اثبات الركن المعنوي في هذه الجرائم وإن كان
البعد من الفقه لا يولي اهتماما لهذه الصعوبة ، ومن تم نتساءل ماهو الركن المعنوي وأهميته ؟ وما هي خصوصية الجرائم الشكلية عن باقي الجرائم ؟ ما مظاهر اعتبار الركن المعنوي في الجرائم الشكلية ؟ وتحديات الاثبات ؟
وللإلمام بذلك واستجابة لدواع منهجية سنتبع التصميم التالي :
المبحث الأول : الجرائم الشكلية في ركنها المعنوي
المطلب الأول : خصوصيات الجرائم الشكلية
المطلب الثاني : مفهوم الركن المعنوي وأهميته
المبحث الثاني : مظاهر اعتبار الركن المعنوي وتحديات الإثبات في الجرائم الشكلية
المطلب الأول : مظاهر اعتبار الركن المعنوي في الجرائم الشكلية
المطلب الثاني : تحديات الإثبات في الجرائم الشكلية
المبحث الأول : الجرائم الشكلية في ركنها المعنوي
سنحاول التطرق في هذا المبحث إلى خصوصيات الجرائم الشكلية (كمطلب أول) ومفهوم الركن المعنوي وأهميته (كمطلب ثاني)
المطلب الأول : خصوصيات الجرائم الشكلية
الجرائم الشكلية أو ما يعبر عنها أحيانا بـ الجرائم غير ذات النتيجة أو جرائم الخطر هي الجرائم التي لا تحدث بطبيعتها أية نتيجة مادية ضارة كجرائم حيازة سلاح بدون ترخيص ، وحيازة المخدرات ،و حيازة نقود مزيفة ، وحمل وسام بدون حق ، وارتداء اللباس أو الشارات أو الرتب العسكرية بدون حق الخ . وهذه الجرائم التي ليس لنتيجتها وجود مادي ،تعبر عن حقيقة قانونية أي عن اتجاه المشرع إلى تجريم الاعتداء على مصلحة جديرة بحماية القانون الجزائي والجرائم الشكلية يعاقب عليها القانون وان لم ينجم عنها أية نتيجة ضارة ، وفيها لا يكون حصول النتيجة الجرمية عنصراً من عناصر الركن المادي ومثال ذلك حيازة سلاح بدون ترخيص وان لم يستعمل3 . تستثنى الجرائم الشكلية من ثلاث موضوعات رئيسية من مواضيع هذه النظرية وهي :
علاقة السببية ، والشروع ، والخطأ غير المقصود .
أولا ـ لا محل لبحث علاقة السببية في الجرائم الشكلية ،لأن البحث في علاقة السببية لا يثار إلا
إذا أدى الفعل إلى نتيجة .إذ أن علاقة السببية أساسا هي رابطة الفعل بالنتيجة ، وعدم وجود
__________________
3. شادية تومي ، محاضرات في القانون الجنائي العام ، مكتبة دار السلام الراباط طبعة 1997ص. 63
نتيجة للفعل بطبيعته ،لا يترك محلا لبحث علاقة السببية في الجريمة المتكونة من هذا الفعل ثانيا ـ لا شروع في الجرائم الشكلية ،لان نظرية الشروع تتطلب أن يكون للفعل نتيجة لكي نقول بخيبة الأثر ، أو عدم تحقق النتيجة لظروف خارجة عن إرادة الفاعل . إذن فان الجرائم الشكلية إما أن تقع بوقوع الفعل فتعد جريمة تامة ،وإما أن لا تقع أبدا أو بمعنى آخر ،لا يمكن للجريمة الشكلية أن تكون موقوفة أو خائبة ، لأن الجرائم الشكلية تتحقق بمجرد البدء بتنفيذها ولا يشترط حصول النتيجة فيها كما أسلفنا ويكون الشروع كالفعل التام لصعوبة التفريق بينهما ، أما في الجرائم المادية حيث لا تتم الجريمة إلا إذا حدثت النتيجة الضارة التي هي غرض الفاعل فالشروع فيها ممكن ومتصور 4
فإذا أطلق أحدهم النار على شخص بقصد القتل فأخطأه ولم يمت لا تعتبر جريمة القتل تامة لأن الوفاة لم تقع ، وإنما ثمة شروع في هذه الجريمة ، أما إذا حمل شخص سلاح دون ترخيص فلا يتصور في هذه الجريمة أي شروع لأن حصول النتيجة غير لازم فيها ، فهي إما أن تقع تامة أو لا تقع إطلاقاً . ورغم أن القانون السوري يعاقب الشروع كالفعل التام إلا أنه أجاز للقاضي أن يخفف العقوبة إذا كانت الجريمة لم تتجاوز حد الشروع ، وفي القانون الفرنسي يعتبر التسميم جرماً شكلياً يستحق الفاعل عليه العقوبة كاملة سواء مات الذي قُدم إليه السم بقصد القتل أم لم يمت ، وسواء أنجده الفاعل نفسه أم لم ينجده 5
ثالثا ـ لا يمكن تصور الخطأ غير المقصود في الجرائم الشكلية ،لان المهم في خطأ الفاعل هو
___________________
4. عبد الواحد العلمي ، شرح القانون الجنائي المغربي ، القسم العام طبعة 2009 ص 277.278
5. شادية تومي ،مرجع سابق ص 88
النتيجة وليس الفعل الذي يحدثها أما الجريمة المادية فيمكن أن تكون مقصودة ،كما يمكن أن تكون غير مقصودة ، حسب ما إذا توافرت لدى الجاني عناصر القصد الإجرامي أو عناصر الخطأ6
المطلب الثاني : مفهوم الركن المعنوي وأهميته
يكون للركن المعنوي أهمية خاصة تتمثل في تحقيق العدالة بالعقوبات المفروض والأحكام الصادرة عن القضاء والكشف عن المجرمين الخطرين وتصنيفهم في فئات كل حسب خطورته للتميز في معاملتهم سواء في الأماكن التي يسجنون فيها أو أساليب العلاج لأن عدم التمييز في هذه الأمور ستؤدي لارتفاع درجة خطورة فئة المجرمين الأقل خطورة
تعريف الركن المعنوي
غالبية القوانين المعاصرة لم تتصد لتعريف حالات الركن المعنوي بل تركت هذه المهمة للفقه والاجتهاد
يتنازع تحديد جوهر الركن المعنوي للجريمة نظريتان هما النظرية النفسية و النظرية المعيارية النظرية النفسية : وتحصر الركن المعنوي في العلاقة النفسية بين الفرد وبين السلوك الذي يسبب في نتيجة إرادية أو غير إرادية ولو لم يكن توقعها طالما أنها يمكن توقعها .أما النظرية المعيارية فترى أن الركن المعنوي يتألف بالإضافة إلى العناصر النفسية المتمثلة بالإرادة من عناصر معيارية
______________
6. عبد الواحد العلمي ، شرح القانون الجنائي المغربي ، القسم العام ص .276
تتمثل في القاعدة القانونية التي تمت مخالفتها التي تعطي تلك الإرادة الصفة الجرمية7 .
تقيم النظريتين من وجهة نظر د. علي عبد القادر القهوجي : يعتقد د. قهوجي بأن( النظرية النفسية تتميز بالبساطة والوضوح كما أنها تتفق وحقيقة الركن المعنوي . فالقانون الجنائي - والكلام للدكتور قهوجي- لا يعاقب على ما يجيش في النفوس من نوايا إجرامية إنما يتدخل حينما تتجسد تلك النوايا في أعمال مادية ملموسة أي أن هذه الأعمال انعكاس للحالة النفسية ومنها تستمد تلك الحالة صفتها الإجرامية . ويضاف إلى ذلك أن تكييف الإرادة أو وصفها بأنها غير مشروعة يضيف إلى الركن المعنوي ما ليس منه . كما أن منطق النظرية المعيارية يقود إلى اعتبار الأهلية الجنائية عنصر من عناصر الركن المعنوي ,ومن المعلوم أن الأهلية الجنائية ومعها المسؤولية الجزائية على اعتبار أن الأهلية الجنائية شرط لازم لقيام المسؤولية الجزائية لا يتم البحث فيهما إلا بشكل تال لوقوع الجريمة وتوافر ركنيها المادي والمعنوي ولهذا يتعين الفصل بين الركن المعنوي والأهلية الجنائية فلا تدخل الثانية ضمن عناصر الأولى .
عرف د. علي عبد القادر القهوجي الركن المعنوي بأنه : الرابطة النفسية بين السلوك الإجرامي و نتائجه وبين الفاعل الذي ارتكب هذا السلوك . بتعبير آخر للدكتور قهوجي : هو العناصر النفسية لماديات الجريمة والسيطرة عليها .8
عرف الدكتور عبد العزيز الحسن الركن المعنوي بأنه : نشاط ذهني نفسي جوهره الإرادة الجرمية ___________________
7. مجالي نظام توفيق ؛ شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، النظرية العامة للجريمة ، مكتبة دار التقافة والنشر ، طبعة 1998ص 114
8.نفس المرجع ص 121
تعريف د. حسن ربيع : هو الإرادة الجرمية التي تسيطر على ماديات الجريمة وتبعثها إلى الوجود . وهناك رأي للدكتور عبد الوهاب حومد يقول فيه : طالما أن الفعل المادي ثمرة الركن المعنوي في العادة فإن تحديد المراد به -الفعل المادي - أمر جوهري لتحديد المساءلة المعنوية وتحديد العقوبة . فيمكننا القول بأن الركن المعنوي هو السبب المنشئ للسلوك المادي الإجرامي ومعيار أساسي في تحديد المسؤولية الجزائية وتحديد العقوبة .9
التميز بين الركن المعنوي للجريمة ومعنويات الجريمة :
الركن المعنوي جزء من معنويات الجريمة فمعنويات الجريمة تشمل كل ماله ارتباط بالحالة العقلية والنفسية للجاني وتتكومن معنويات الجريمة من :
• الركن المعنوي : وهو العناصر العقلية والنفسية التي يعينها المشرع في النموذج القانوني للجريمة
• شرطي المسؤولية الجزائية : الإدراك والاختيار
1. الإدراك : حالة عقلية تتعلق بسلامة العقل أو ضعفه أو اعتلاله
2. حرية الاختيار : حالة نفسية تتعلق بمدى استقلال الإرادة عن القوى الخارجية المؤثرة فيها
والركن المعنوي للجريمة يتم البحث فيه وقت وقوع الجريمة أما المسؤولية الجزائية فيتم البحث
عنها بعد وقوع الجريمة لتحديد ما إذا كان الفاعل أهل للمسؤولية الجزائية أم لا .10
________________
9. مجالي نظام توفيق مرجع سابق ص. 117.124
10. أشرف توفيق شمس الدين ، شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، النظرية العامة للجريمة والعقوبة ، دار النهظة العربية ، الطبعة الأولى 2008 ص 224
من مجمل التعاريف السابقة نجد أن الركن المعنوي ليس إلا الحالة النفسية و الذهنية للفاعل عند ارتكابه لجريمته فإذا كانت حالته الذهنية والنفسية متجهه لارتكاب الجريمة يكون قد ارتكب جريمة مقصودة يتخذ ركنها صورة القصد أما إذا لم تك متجهه لارتكابها وكان الفاعل قد أقدم على ارتكابها خطأ فتكون جريمته غير مقصودة ويتخذ ركنها المعنوي صورة الخطأ .11
القصد الجرمي
القاعدة أن تكون الجرائم مقصودة والاستثناء على هذه القاعدة الجرائم غير المقصودة والقسم الأهم من الجرائم هي الجرائم المقصودة نظرا لما يظهر منها من خطورة على سلامة الأفراد والمجتمع على حد سواء 12. فلدراسة القصد الجرمي بعناصره وصوره أهمية بالغة .
- مفهوم القصد الجرمي : الفقه الجنائي منقسم في شأن مفهومه للقصد الجرمي على نظريتين : نظرية الإرادة و نظرية العلم .
نظرية الإرادة :ترى أن القصد الجرمي لا يقوم إلا إذا توافرت للفاعل إرادة الفعل الإجرامي و إرادة النتيجة على حد سواء مع العلم بكافة العناصر التي يتكون منها الركن المادي للجريمة .
نظرية العلم : وترى أنه يكفي لقيام القصد الجرمي أن يريد الفاعل الفعل الجرمي مع توافر علمه بكافة العناصر الأخرى المشكلة للركن المادي للجريمة . أي أن هذه النظرية تستبعد إرادة النتيجة من عناصر القصد الجرمي وتكتفي بمجرد العلم بعناصر الركن المادي ومنها النتيجة بطبيعة الحال
________________
11. احمد الخمليشي ، شرح القانون الجنائي ، القسم العام ، مكتبة معارف النشر والتوزيع ، الرباط طبعة 1985ص.301
12. عبد الواحد العلمي ، شرح القانون الجنائي المغربي ، القسم العام ص200.201
إلى جانب إرادة الفعل فقط . مثال : في جريمة القتل يتألف القصد الجرمي من العلم بأن محل الجريمة إنسان حي وبأن من شأن الفعل إحداث الوفاة فأقصى ما يتألف منه القصد الجرمي في هذا المثال هو إرادة فعل القتل دون أن تشمل تلك الإرادة الوفاة ولا يغني عن ذلك توافر علم الجاني حتى لو كان علمه يقنيا بأن من شأن فعله إحداث الوفاة لأن العلم اليقيني لا يحل محل الإرادة بل كل ما هنالك أن القصد يصبح مباشرا حيث أنه إذا كان هذا العلم توقعا صار به القصد احتماليا أو غير مباشر .
وجه الخلاف الحقيقي بين النظريتين ينحصر في تتطلب نظرية الإرادة ثبوت اتجاه الإرادة إلى إحداث النتيجة وإلى الوقائع المشكلة للركن المادي للجريمة بينما لتتطلب نظرية العلم ذلك و تكتفي بعلم الفاعل بأن من شأن الفعل الذي يقدم عليه إحداث النتيجة الجرمية ولاتشترط ثبوت اتجاه إرادته لإحداث النتيجة . ويرجع سبب الخلاف على عدم اتفاق أنصار كل من النظريتين على تحديد مفهوم الإرادة فأنصار نظرية الإرادة يرون بأن الإرادة هي نشاط نفساني يوجهه صاحبه إلى غاية معينة دون أن يتطلب ذلك السيطرة على سبل تحقيق هذه الغاية , بينما يرى أنصار نظرية العلم أن الإرادة هي السبب المنشئ للفعل والإرادة بهذا المعنى تفترض امتلاك صاحبها السيطرة على سبل تحقيق الفعل أي قدرته على إحداثه من عدمه.13
مبررات كل من النظريتين من وجهة نظر أنصارهما :
يقول الدكتور أحمد أبو الروس وهو من أنصار نظرية العلم : ( الإرادة يمكن أن يكون لها السيطرة
_________________
13. شادية تومي مرجع سابق ص 100 إلى 105
على إحداث الفعل عن طريق التأثير على أعضاء الجسم ودفعه إلى إتيان الحركات العضوية التي يتطلبها إحداث الفعل , أما النتيجة فلا تملك الإرادة القدرة على إحداثها من عدمه لأن حدوثها إنما هو - وهنا يستشهد بقول للدكتور نجيب الحسيني في إحدى مقالاته - (( ثمرة لتفاعل قوانين طبيعية حتمية لا سيطرة لإرادة الإنسان عليها )) ولأن القول باتجاه الإرادة إلى إحداث النتيجة - د. حسيني - ((قول يفترض إثبات سيطرة الجاني على القوانين الطبيعية وهو إثبات يستحيل على العقل تصوره )) اللهم إلا إذا فهمت الإرادة بمعنى الرغبة وهو قول خطير لأنه يؤدي إلى عدم مسؤولية الجناة عن النتائج التي لا يرغبون فيها مسؤولية عمدية (قصدية ) وهومايتعارض مع ما استقر عليه الفقه والقضاء . فمن ينسف سفينة في عرض البحر ليحصل على مبلغ التأمين عليها فيترتب على فعلته هلاك المسافرين يسأل عن وفاتهم مسؤولية عمدية ( قصدية ) ولو لم يكن راغبا في إهلاكهم .كما أن إدخال النتيجة كعنصر في القصد من شأنه إعجاز فكرة القصد الجنائي عن استيعاب صفة العمد ( القصد ) في الجرائم التي يكون فيها محل التجريم هو السلوك المجرد (الجرائم عير ذات نتيجة ) كحمل سلاح غير مرخص وهنا تظهر عدم سلامة نظرية الإرادة فصلاحيتها تقف عند حدود الجرائم ذات النتيجة إذا كان الأمر كذلك فما هي مظاهر اعتبار الركن المعنوي في الجرائم الشكلية ؟
المبحث الثاني : مظاهر اعتبار الركن المعنوي وتحديات الإثبات في الجرائم الشكلية
من خلال هذا المبحث سنحاول رصد بعض الجرائم الشكلية للوقوف على مظاهر اعتبار الركن المعنوي في تحقق هذه الجرائم (كمطلب أول) وكذا تحديات إثبات الركن المعنوي (كمطلب ثاني)
المطلب الأول : مظاهر اعتبار الركن المعنوي في الجرائم الشكلية
جريمة الرشوة : تعتبر الرشوة من الجرائم الماسة النظام العام الإداري الذي يتطلب واجب الإستقامة والنزاهة في الموظف العمومي .
ويتطلب الركن المعنوي للمسؤولية الجنائية لمرتكبي جريمة الرشوة توافر مفهومي الإسناد المعنوي والاثم ، واذا افترضنا وجود الاسناد المعنوي فإن طبيعة الإثم هنا تكمن في مفهوم القصد الجنائي ، بمعنى أن النية الاجرامية لدي الجاني تستهدف هنا تنفيذ عمل معين أو الامتناع عنه بصورة
مخالفة للقانون 1
وذهب القانون المصري بأن القسد الجنائي في الرشوة يتوافر بمجرد علم المرتشي عند طلب أو قبول الوعد أو العطية ، أنه يقبل بهذا لقاء القيام بعمل أو الامتناع عن عمل من أعمال الوظيفة ، ويستنتج الركن المعنوي من الظروف والملابسات التي صاحبت العمل أو الامتناع وأن يكون معاصرا في وجوده للنشاط المادي المكون للجريمة افتراضا بوجود العلم والارادة 2
جريمة المؤامرة : إن الركن المعنوي في هذه الجريمة يلتصق بشخصية الجاني وسلوكه النفسي والذهني ، فلا بد أن يتوافر لكل واحد من المتآمرين الاسناد المعنوي وقت اتفاقهم الاجرامي بمعنى أنه يجب التأكد أولا من وجود السلامة العقلية وحرية اختيار السلوك الإجرامي 3 وإن اللحظة الزمنية المعتمد عليها لمعرفة توافر الإسناد المعنوي من عدمه لدى شخصين على الأقل
_________________
1.مبارك السعيد بالقايد ، القانون الجنائي الخاص ، الطبعة الأولى الرباط 2000 ص 97
2.ياسر كمال الدين ، جرائم الرشوة واستغلال النفوذ ، طبعة 2008 ص 77
3.مبارك السعيد بالقايد ، مرجع سابق ص 51
هي اللحظة التي صدر فيها الإتفاق الإجرامي عنها ، واعتبار أن القصد الخاص متوفر لديهم لكونها تهدف المساس بأمن الدولة فالقصد الخاص محدد على أن المشرع تطلب النية الاجرامية 4 , وهذا ما ذهب اليه كل من الدكتور الخمليشي والدكتور حومد باشراطهما لضرورة توافر القصد الخاص إلى جانب القصد العام ، فمعنى القصد الخاص عند الدكتور الخمليشي في جريمة المؤامرة " هو أن تكون لدى أعضائها عند تقرير الاتفاق نية اجرامية وقصد الى ارتكاب جريمة معينة " في حين اعتبر الدكتور حومد " بأنه الغرض الذي يرمي الفاعل إلى تحقيقه من جريمته فيجب أن يعلم أنه يقصد قلب الحكومة أو تغيير النظام ، وعلى النيابة العامة اثبات ذلك " في حين يرى الدكتور عبد الواحد العلمي أن القصد الخاص لا عبرة له في جريمة المؤامرة ويكفي القصد العام ،لأن اعتبار القصد الخاص من شأنه أن ينفي القصد الجنائي وبالتالي انتفاء الجريمة من الأصل5
جريمة حيازة المخدرات : وهي من جرائم السلوك المجرد، أو مايعرف بجرائم الخطر ، وهي الجرائم التي لا ينظر المشرع إلى الأضرار الناتجة عنها فعلا ، ولكن إلى الأخطار الناتجة عنها ، ولا يكفي لقيام إحدى جرائم المخدرات الشكلية أن ينص المشرع على تجريم بعض الأفعال عن بينة واختيار وهو ما يعبر عنه بالركن المعنوي الذي يتمثل في الجانب الداتي للجريمة ويعبر عن الصلة بين النشاط الذهني للفاعل وبين نشاطه الإجرامي ، وهكذا فالجريمة تتهقق بعلم الفاعل باتجاه ارادته إلى ارتكاب أهد الفعال التي جرمها المشرع بغض النظر عن الباعث أو الغاية التي
_________________
4.محمد التغدويني ، اشكالية التجريم في التشريع الجنائي المغربي ، ص 102
5. عبد الواحد العلمي ، شرح القانون الجنائي المغربي ، القسم الخاص ، مطبعة الجديدة الطبعة الثالتة 2011 ص 32.33
دفعته إلى ذلك وهذا مايعبر عنه الفقه الجنائي بالقصد الجنائي العام 6
فالمشرع لم يتطلب ضرورة وجود قصد خاص ، بل عاقب عليها لمجرد القيام بها ، وعليه سار القضاء المغربي علي نفس النهج حيث أكدت محكمت النقض في أهد قرارتها " على أن ما أثاره العارض من انعدام جريمة تسهيل المخدرات للغير بانعدام عنصرها المعنوي لديه ، فإنه يتبين أن العنصر المعنوي يعتبر استخلاصه من الماسائل الموضوعية يخضع أمر ثبوته للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع " 7 إضافة إلى ذلك تلعب الارادة دورا مهما في اثبات هذه الجريمة ، فبانتفائها تنتفي الجريمة ، حيث جاء في قرار لمحكمة النقض : " إن ضبط المخدر في حوزة المطلوبة في النقض إذا كان يعتبر عملا ماديا فإنه لا إرادة لها في القيام به باختيار منها ، وإنما كانت هي نفسها ضحية هذا الفعل الإجرامي الذي أوقعها فيه مرتكب الجريمة الذي استغل حسن نيتها وربما سداجتها " 8
جريمة عدم التبليغ عن الجرائم : إلى جانب ضرورة توافر الإسناد المعنوي لدى الجاني ، فان طبيعة الإثم لديه تكمن في وجود قصد جنائي عام ، فعدم التبليغ عن جناية أو الشروع فيها يفترض أن الجاني يعلم أن جريمة خطيرة ارتكبت أو أن هناك محاولة الاقترافها ، أو أن تدخله لإبلاغ السلطات المختصة هو مفيد ، وطبعا لا يهم هنا الدافع الذي أدى بالفاعل إلى عدم التبليغ 9
______________
6.محمد غزاف ، جرائم المخدرات واجراأتها العملية ، متبعة الوراقة الوطنية ، الطبعة الأولى 2010 ص.24
7.قرار عدد 4377بتاريخ 24 ماي 1984 ملف جنائي عدد 84/3305، محمد أوغريس ، جرائم المخدرات في التشريع المغربي ، دار قرطبة البيضاء الطبعة الأولي 1999 ص 65
8. قرار عدد 2726 بتاريخ 1999/3/14 ملف جنائي عدد 14057 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى ، عدد 46 نونبر 1992 ، ص . 205
9.مبارك السعيد بالقايد ، مرجع سابق ص 170
المطلب الثاني : تحديات الإثبات في الجرائم الشكلية
تنص المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية علي مايأتي :
"يمكن اثبات الجرائم بأي وسيلة من وسائل الاثبات ماعدا في الأهوال التي ينص القانون فيها على خلاف ذلك ويحكم القاضي بحسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند 8 من المادة 365 الآتية : إذا ارتأت المحكمة أ الاثبات غير قائم صرحت بعدم ادانة المتهم وهكمت ببرا ءته "
إن عبئ الإثبات يتحمله من يدعي وبما أن النيابة العامة تلعب في قانوننا مبدئيا الترف المدعي في الدعوى العمومية فإن عبئ الاثبات يقع على عاتقها 10 ، سواء اثبات الركن المادي أو الركن المعنوي ، ويفترض قيام الركن المعنوي طالما قد أقيم الدليل علي قيام الركن المادي ، نظرا للعلاقة الوثيقة بينهم ، لكن إثبات الركن المعنوي يبقي من الصعوبة بمكان خاصة في الجرائم الشكلية التي لا يفترض فيها النتيجة ولا تستطيع المحكمة اثباتها بطريق مباشر 11 مما يجعل الركن المعنوي يتسم بالصعوبة أنه ينصب على ما يدمره الشخص في خلده ولا يأتي التعرف على خلجات الضمير إلا بالعلامات الخارجية والقرائن الموضوعية ، لذلك يعود للمحكمة السلطة التقديرية في التأكد من قيام الركن المعنوي والاستعانة بجميع وسائل الإثبات 12
_____________________
10 عبد الواحد العلمي ، شرح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية ، الجزء الثاني ، الطبعة الثالتة 2012 ص.379
11.عبد الحكم فوده ، أدلة الاثبات والنفي في الدعوى الجنائية في دوء الفقه وقضاء النقض ، متبعة القدس ، طبعة 2008 ص 62
12. الحبيب بيهي، شرح قانون المسطرة الجنائية الجديد ، الجزء الأول ، منشورات المجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية
التبعة الأولى 2004 ص. 189
وما يمكن أن نؤكد به أيضا صعوبة اثبات الركن المعنوي نأخد مثال جريمة الرشوة باعتبارها جريمة شكلية حين تقوم على وعد شفوي فيصبح اثباتها صعبا ولا يعتد بقول من سكت قبل أو السكوت في معرض الحاجة إلى بيان بيان ، وعلى أي يمكن اثبات الركن المعنوي بجميع وسائل الإثبات13
إضافة الي ذلك تتجلي الصعوبة في مثال جريمة المخدرات المومأ اليها سابقا ، اذ أن المشرع في مدونة الجمارك جعل اثبات هذه الجريمة بمجرد تحقق الركن المادي ولنفي الركن المعنوي يتطلب اثبات القوة القاهرة وهو ما يكاد يكون من المستحيلات 14
خاتمة
وهكذا يمكن القول أنه ولو كان البعض يعتبر أن الجريمة الشكلية تتحقق بتحقق ركنها المعنوي سواء كان متمثل في العلم والارادة أي القصد العام أو سوء نية القصد الخاص فإن اثباته يبقي من الصعوبة بمكان نظرا لكونه يتمثل في ما يضمره الشخص من نوايا لا يمكن استخلاصها بالسهولة مما جعل إثباته يخضع للقاعدة العامة وهي جميع وسائل الاثبات ومنه السلطة التقديرية للقاضي
___________________
13.. مبارك السعيد بالقايد ، مرجع سابق ص 97
14. حميد الوالي ، المنازعات الجمركية بين القواعد الجزائية العامة ومدونة الجمارك ، المجلة الالكترونية لمحاكم فاس ، عدد خاص عن مدونة الجمارك ، العدد الثالت يناير 2006 ص 62