منقول
بسم الله الرحمن الرحيم
1. خصائص السياسة الجنائية
تتميز السياسة الجنائية بمجموعة من الخصائص، تنطلق من رسم غايات وأهداف يراد تحقيقها في مجال مكافحة الجريمة، وسنعرض لبعض هذه خصائص كما أوردها الدكتور فتحي سرور في كتابه "أصول السياسة الجنائية" كما يلي:
خاصية العلمية:
تتوخى السياسة الجنائية تطوير القانون الجنائي الوضعي في مجالات التجريم والعقاب والمنع وذلك بتوجيهه في مرحلة إنشائه وتطبيقه، فخلال مرحلة سن القواعد الجنائية ينبغي للمشرع الاهتداء بمبادئ السياسة الجنائية ، أما خلال مرحلة التطبيق فينصرف التوجيه إلى القاضي الذي يتعين عليه الإلمام بآخر المستجدات والتطورات التي تعرفها السياسة الجنائية ليستعين بذلك في تطبيق النصوص وجعلها تلائم أهداف المشرع وغاياته. فالسياسة الجنائية لا تطور النصوص التشريعية فقط وإنما تعمل أيضا على تطوير تفسير هاته النصوص بواسطة كل من الفقه والقضاء.
خاصية النسبية:
تتميز السياسة الجنائية بخاصية النسبية لكونها ترتبط بظاهرة الإجرام التي تختلف أسبابها باختلاف البيئة والظروف الاجتماعية، لذلك فإن تحديد السياسة التي تبين الجريمة وتجد الوسائل الكفيلة بإيجاد أسلوب العقاب عليها أو الوقاية منها تتأثر تبعا لطبيعة هذه البيئة، وبناء عليه فإن الوسائل التي قد تصلح لمكافحة الجريمة في دولة معينة قد تكون عديمة الجدوى في دولة أخرى نظرا لاختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للدولتين.
الخاصية السياسية:
ترتبط السياسة الجنائية بالوضع السياسي القائم في الدولة والذي يوجهها ويحدد إطارها، فالدول التي تسيطر عليها الأنظمة الديكتاتورية تختلف عن غيرها من الدول ذات النظم الديمقراطية في تحديد السياسة الجنائية، فهناك إذن علاقة أساسية بين المسائل الهامة للسياسة الوطنية والسياسة الجنائية.
خاصية التطور
إذا كانت ظاهرة الإجرام ظاهرة اجتماعية، فهي بذلك متغيرة ومتطورة، فأهم ما يميز السياسة الجنائية هو حركتها، فهي سياسة متطورة بحكم اعتمادها على نتائج علم الاجتماع القانوني وما اهتدى إليه علم الإجرام والعقاب، كما تتأثر أيضا كما رأينا بالنظام السياسي السائد، ولدلك وجب أن تراجع السياسة الجنائية باستمرار حتى تكون فاعلة.
2. مجالات السياسة الجنائية
يتضمن هذا العنصر دراسة مجالات السياسة الجنائية، التي تتحقق من خلال تضافرها الأهداف التي تسعى هذه السياسة إلى تحقيقها ويتعلق الأمر بسياسة التجريم والمنع والوقاية.
سياسة التجريم
تتضمن هذه السياسة بيان المصالح الجديرة بالحماية العقابية والتي تتضمن المصالح الاجتماعية التي تهم حماية المجتمع والإنسان من الاعتداء عليها، فالسياسة الجنائية تهدف إلى إنشاء الجرائم التي تمس المصلحة الاجتماعية وتضع الإطار القانوني للمصالح المحمية بالتجريم من خلال نصوص القانون الجنائي الذي يحدد النتائج الضارة لكل فعل، والتي تستوجب التجريم، ومقابلتها بالجزاء الملائم طبقا لمبدأ "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص" فلسياسة الجنائية تفرض على المشرع الجنائي أن يوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة بهدف تحقيق الاستقرار للقانون الجنائي الذي ينبغي أن يدخل في إطار التخطيط العام الذي تقوم به الدولة لتجنب آفات البطالة والتقهقر والانحطاط الأخلاقي. وقد أدى هذا التصور في مجال التجريم بالمفكرين وعلماء الإجرام إلى المناداة بوجوب جنوح هذه السياسة نحو توجيه المشرع إلى نهج سياسة التجريم الوقائي التي تقتضي تحديد التدابير الواجب إتباعها لمواجهة الخطورة الاجتماعية للفرد من أجل منعه من ارتكاب الجريمة.
وتجدر الإشارة إلى أن سياسة التجريم لها دور تربوي واجتماعي إضافة إلى دورها الحمائي، ويتجلى ذلك من خلال القواعد المرتبطة بالأخلاق والتقاليد الاجتماعية والتي تسعى إلى المحافظة على القيم الدينية وترسيخها في الضمير الجمعوي، وتكمن أهمية هذا الدور التربوي على الخصوص بالنسبة للقيم الاجتماعية الجديدة التي تظهر في المجتمع نتيجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي يتصدى المشرع لجوانبها السلبية التي يمكن أن تؤثر على مستوى العلاقات بين الأفراد .
سياسة العقاب
تعتبر السياسة العقابية وسيلة لتنفيذ جزء محدد من السياسة الجنائية والذي يرتبط أساسا بالقانون الجنائي والمسطرة الجنائية باعتبارهما آليتين محوريتين في تحديد ردود الأفعال تجاه الجريمة، أما الجزء الآخر الذي يشمله علم الإجرام فإنه يظل مجالا خصبا يتناوله الباحثون بالدراسة والتحليل في أسباب وطبيعة السلوك الإجرامي.
وبالرجوع إلى المشرع الجنائي نجد أنه يربط دائما العقوبة بالجريمة بمقتضى علاقة سببية يفرضها العدل ويلتزم القانون باحترامها ومراعاتها، إذ أنه لا عقوبة بدون جريمة سابقة منصوص عليها وعلى عقوبتها في القانون الجنائي كما أنه لا جريمة بدون عقوبة، فالعلاقة هي من إنتاج المشرع الجنائي الذي يمنح للدولة حق الردع الخاص وذلك طبقا لمبدأ "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"
ويعتبر الردع العام من أهم أهداف السياسة الجنائية في مجال العقاب، غير أن أثره يختلف باختلاف الجرائم التقليدية أو الاجتماعية والجرائم القانونية أو الاصطناعية، وهكذا فإنه بخصوص النوع الأول فإن أثر الردع على أفراد المجتمع لا ينبع من النصوص الجنائية بقدر ما ينبع من احترامهم لأهم المبادئ التي يؤمن بها هؤلاء الأفراد وهو ما يفسر بأن حركة الإجرام تزداد رغم تشديد العقوبات كما تشير إلى ذلك الإحصائيات التي قام بها علماء الإجرام في مختلف البلدان.
أما النوع الثاني من الجرائم فإن الأفراد يحترمون فيه نصوص القانون أكثر من احترامهم لمبادئ المجتمع ، ولهذه العلة فإن الردع العام يكون في هذه الحالة أكثر تأثيرا على هؤلاء الأفراد سواء من الناحية الاجتماعية أو النفسية.
فالعقوبة في حد ذاتها لا تؤثر على الإنسان وسلوكه مهما كانت طبيعته، وذلك راجع لكون الجرائم التي يرتكبها غالبا ما ترتبط بغرائزه التي لا يمكن أن يقاومها باعتبار أنها تدخل في نطاق موته المستمر. ولذلك فقد تطورت السياسة العقابية إلى درجة تحول معها مفهوم العقاب من مجرد جزاء جنائي ضد الجاني إلى فعل اجتماعي غايته الpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>إصلاح والتأهيل بدل الانتقام أو القسوة التي كانت سائدة في ظل السياسة العقابية القديمة.
فالسياسة الجنائية المعاصرة أخذت بضرورة فحص شخصيةpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>المجرم وقياس التدبير الملائم له وفقا لدرجة خطورته، وهكذا فقد أقرت سياسة الدفاع الاجتماعي عند "كراماتيكا" و" مارك انسل" بحماية الجاني من خلال pdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>إصلاحه وذلك باحترام حقوق الإنسان وتوفير الضمانات الإجرائية خلال جميع مراحل الدعوة الجنائية.
سياسة الوقاية والمنع
تهتم هذه السياسة بالمرحلة التي تسبق وقوع الجريمة وتتمظهر من خلال التدابير والإجراءات التي يتم اتخاذها من طرف المشرفين على السياسة الجنائية للحيلولة دون وقوع الجريمة. وتهدف سياسة المنع في كل الدول إلى اجتثاث العادات الانحرافة والقضاء على العوامل التي تهيئ الفرص لارتكاب الجريمة، وذلك إعمالا لمبدإ: " الوقاية خير من العلاج" فالبحث عن الأسباب والعوامل، وتشخيص الوضعيات الاجتماعية، والتصدي للظواهر التي تؤدي للانحراف تعد من بين التدابير الوقائية التي ينبغي للدولة أن تعتمدها وأن تنهج بالموازاة مع ذلك سياسة اجتماعية لتحسين ظروف عيش المواطنين ورفع مستواهم الاقتصادي والاجتماعي، ومكافحة البطالة وتشجيع التضامن والتزامها بمجانية التعليم والتغطية الصحية والسكن اللائق وتوفير فرص الشغل وتحسيس الأفراد بخطورة الجريمة والانحراف، وكذا تشديد الرقابة على الأماكن العمومية وتوفير الأمن الاجتماعي.
وقد شكل المؤتمر السادس للأمم المتحدة المنعقد بكاركاس سنة 1980 أول مؤتمر دولي يعترف بأن برامج منع الجريمة ينبغي أن تستند إلى الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية للبلدان وتشكل جزءا من عملية التخطيط الإنمائي، وبناءا عليه فقد اهتمت العديد من البلدان في إستراتيجيتها الجنائية بمنع الجريمة قبل تدخل نظام العدالة الجنائية.
3. أهداف السياسة الجنائية
يمكن القول بأن أي سياسة جنائية لابد لها من وضع إستراتيجية للوصول إلى هدف أو أهداف معينة، وتحدد هذه الإستراتيجية في اعتماد مجموعة من الوسائل والأساليب لبلوغ تلك الأهداف التي سطرتها، وتمتاز السياسة الجنائية عموما بتحقيق هدفين أساسيين هما: تحقيق الحماية الاجتماعية، والاتجاه نحوpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>إصلاح وتأهيلpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>المجرم.
الحماية الاجتماعية الإنسانية:
إن الدولة في إطار سياستها الجنائية تحاول دائما تحقيق التوازن بين حقها في العقاب ومنع الجرائم والوقاية من خطرها، وبين حماية حقوق الإنسان والدفع بالفرد للالتزام أثناء نشاطه بالقيم والقوانين السائدة في المجتمع بقصد التكيف مع المعايير الاجتماعية والقانونية لضمان استفادته من حقوقه الكاملة وقيامه بواجباته وتحمله لمسؤولياته.
من هذا المنطلق فالسياسة الجنائية تهدف إلى القضاء على مسببات الجريمة والتي تتمثل لدى كل الشعوب في وجود خلل في البنيات الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية أو في العلاقات الإنسانية والقيم الأخلاقية التي تسود بين الأفراد، فهي تسعى إلى القضاء على الخطورة الإجرامية وعلى هذا الأساس يمكن للدولة أن تواجه هذه الخطورة باتخاذ تدابير وقائية وأخرى منعية تنفيذا لسياسة الدفاع الاجتماعي وذلك بالحد من العادات الانحرافية، والعمل على تطوير نظم المجتمع، وحماية حقوق الإنسان التي تعتبر ركيزة أساسية لتحقيق السلم الاجتماعي وحماية المجتمع من مظاهر الانحراف والتوجه نحو الإجرام.
الpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>إصلاح والتأهيل:
تهدف العديد من المذاهب والاتجاهات الفلسفية إلى التركيز في سياستها الجنائية على مبدإpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>إصلاحpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>المجرم من خلال توجيه العقوبة نحو الpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>إصلاح والتأهيل بدل القسوة والانتقام، وتعتبر نظرية "كراماتيكا" من أبرز الpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>نظريات التي ركزت على مبدإ الpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>إصلاح يقول في هذا الصدد: (( إن سلطة الدولة في الدفاع الاجتماعي تنبع من واجبها فيpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>إصلاح أعضاء المجتمع والارتقاء بهم))
وعلى هذا الأساس فإن التأهيل والpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>إصلاح يكون بديلا للعقاب. كما ذهب "مارك أنسل" في نفس الاتجاه بتركيزه على مبدإ التأهيل الذي يحقق الحماية المرجوة للمجتمع، فpdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>إصلاح الجاني وتقويمه وتأهيله للاندماج في المجتمع يقع على عاتق الدولة والمجتمع ككل.
ويتحقق هذا التأهيل عن طريق تعليم الجاني إحدى المهن التي تناسب ميوله وتثقيفه وتعليمه وإعادة تربيته أو علاجه نفسيا، وهذا التأهيل هو الذي يقي المجتمع من إجرامه في المستقبل.
ولهذا فالسياسة الجنائية تعمل على مواجهة pdf&button=&gsearch=2&utm_source=related-search-blog-2013-02-13&utm_medium=body-click&utm_campaign=related-search’>المجرم بتدابير اجتماعية تراعي الأسباب والعوامل العضوية والنفسية والاجتماعية التي دفعته للّإجرام، والتي ينبغي إخضاعها لمبدأ الشرعية من أجل حماية الحقوق والحريات الفردية.