المتنبي وكافور الاخشيدي
تميزت الحضارة أيام دولة الاخشيدين بمصر بالرقي والتميز في شتى مناحي الآداب والعلوم والدين وحتى السياسة فبقدر عدم استقرار منطقة الشام والعراق والمنازعات بينها وبين الروم عرفت مصر استقرارا ونهضة ادبية تكاد تفوق الى حد كبير حضارة الشام والعراق فبعد أن ايستيأس أبو الطيب المتنبي من الامير سيف الدولة الحمداني وضاقت عليه الدنيا بما رحبت خيره بعض رفاقه للسفرمعهم الى العراق ولكن المتنبي كان قد قال في بعض قادتهم شعرا غير قليل فآثر مصر كافور الاخشيدي وقد حل بها ولكن شعره قليل بالقياس لما قاله في سيف الدولة مرجع ذلك أنه أخطأ التقدير أولا بغروره بنفسه الذي فاق الحدود؛ ثانيا بتبرمه من حياة الهدأة والدعة والاحساس بالهوان ايضا خلاف ما كان عليه في مجلس سيف الدولة بحلب كان مغتما حزينا ذو أشجان لوطنه الأم ساخطا على وضعه الجديد منافقا في مدحه ؛ ظاهر مدحه الثناء والاطراء وباطنه الإستخفاف والاستهزاء أنظر الى قوله في كافور:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله** فاني أغني منذ حين وتشرب
أحن الى أهلي وأهوى لقاءهم *** وأين من المشتاق عنقاء مغرب
أما كافور فكان من النباهة والسياسة ومعرفة أقدار الناس بمكان بحيث وضع المتنبي في مكانه الصحيح لعلمه أن الرجل أتاه مبتغيا الولاية والسلطان
أَبا المِسكِ ذا الوَجهُ الَّذي كُنتُ تائِقاً **إِلَيهِ وَذا الوَقتُ الَّذي كُنتُ راجِيا
إِذا كَسَبَ الناسُ المَعالِيَ بِالنَدى ***فَإِنَّكَ تُعطي في نَداكَ المَعالِيا
حَبَبتُكَ قَلبي قَبلَ حُبِّكَ مَن نَأى *** وَقَد كانَ غَدّاراً فَكُن أَنتَ وافِيا
رحب به كافور وجامله واستمع اليه ولكن شاعرنا كان ينظر الى نفسه أكثر من النظر الى كافور نلاحظ في شعره أنه اهمل الجانب الحضاري الذي تميزت به الفوسطاط آنذاك وما عرفته من نشاط اجتماعي وعمراني وثقافي يستحق الاشارة بقليل أو اكثر ؛ ولكن هذا كله لم يجدث ؛ لكون الرجل كان مشغولا بنفسه وأحزانه الداخلية .
قال له صديقه أبو شجاع ذات مرة : سيعطك كل شيئ الا الولاية يا أبا الطيب .. وحين توفي ابو شجاع رثاه بقصيد رائع مؤثر حقا :
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
واجز الامير الذي نعماه فاجئة ** بغير قول ونعمى الناس أقوال
لا يدرك المجد الا سيد فطن *** لما يشق على السادات فعال
أبو شجاع أبو الشجعان قاطبة *** هول نمته من الهيجاء أهوال
ألم وحزن وطلب للمعالي لم يتحقق وغرور بالنفس واعجاب بها حد التهور وحنين الى الاهل والتفات الى كافور في آخر المطاف بعين الاستخفاف والسخرية اسمع الى قوله
تفضح الشمس كلما ذرت*** الشمس بشمس منيرة سوداء
ونحن نعرف ان كافورا كان أسود البشرة ثم في قوله :
يارجاء العيون في كل أرض *** لم يكن غير أن أراك رجائي
وفؤادي من الملوك وإن كان لساني يرى من الشعراء
ولكن حبل أمله سرعان ما انقطع وهاجر في حين غفلة مغادرا مصر وقد هجا كافورا بأقدع الأوصاف ؛
عيد بأية حال عدت يا عيد ** بما مضى أم لأمر فيك تجديد
جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود
جوعان يأكل من زادي ويمسكني لكي يقال عظيم القدر مقصود
الى آخر ما قال حقا يعتبر ابو الطيب المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس كما قال هو عن نفسه :
أنام ملء جفوني عن شواردها ***ويسهر الخلق جراها ويختصم
للحديث بقية
18/01/2018