إهـــداء
إلى اللحظات التي تعبر عن المعاناة، والتي قد تحكي صعود زفرة أو اشهاشة أو شهقة إلى تلكم اللحظات أهدي نشوة الحزن....
أحداث كثيرة تثرى وأناس عديدون نعرفهم أو نصادقهم أو تجمعنا وإياهم صدفة أو لقاء عابر وسريع، وتنجلي اللحظة وتبقى في الأعماق بقايا ذكرى وصور جميلة لكلمة قيلت أو لطيب شعور أو جميـــــل معاملة ولياقة وتصرف، وتبقى في الذاكرة الأشياء الحبيبة التي لايمكن تجاهلها أو نسيانها بأي حال من الأحوال مهما تقدمت بالعمر السنون و تغيرت الأحوال والظروف أقول هذا وأنا أرجع بالذاكرة إلى أيام الدراسة بحيث أذكر أن إحدى زميلاتنا قد أصيبت بوعكة صحية، وكانت من أنجب الفتيات ليس على صعيد قسمنا وحده، وإنما على صعيد الثانوية بأجمعها، إذ تميزت بدماثة الخلق واباء النفس وبعد النظر ولين الطبع ورقة الحاشية بحيث حظيت بحب واكبار كافة كل من عرفوها لولا هذه الوعكة الصحية التي ألمت بها على حين غفلة بدون استئذان وحلت تغيباتها بين الحين والحين من ساحة الدرس وبدأت تطول شيئا فشيئا وكأنما تمهد يد القدر بظهر الغيب أمرا ما عبثا نحاول تصور كنهه واستجلاء مغزاه لكن بدون جدوى ولا طائل، أما أستاذنا طيب الله ذكره فحرص في كل الحرص على استذكار مناقب هذه الفتاة والدعاء لها بالشفاء ولا أزال أذكر الدمع مترقرقا في أعين الكثيرين من إخواني وزملائي وعلى رأسهم أستاذنا الجليل، الحديث عنها شجي كله حنين وكيف لا وقد كانت الشعلة الوضاءة الذي يلهب حماساتنا فيغرينا بالمنافسة والمزيد من التحصيل منا في تلك الأيام نتبارى أينا يقدم أحسن العروض في مادة اللغة العربية ومن يكسب رضى الأستاذ الذي لا يقبل بأي حال من الأحوال بأنصاف الحلول، كثرت تغيبات الفتاة وكثر إزائها الهمس ... ترى ماذا دهى الفتاة؟ هل تحس بالرضى في قرارة نفسها وهي بعيدة عن أحبابها وعن جو التحصيل ؟ ألا تقوى على منازلة المرض بقدر ما تنزل وهي بين ظهرانينا ؟ رباه ماذا حدث؟ هل انقضى كل شيء وهل الزمن الذي أعطاها وعفاها لا يردها الينا ثانية أخرى؟ ماذا حدث لنا حتى أوشكت الحماسة أن تتسرب من أجوائنا فكلنا مهموم لما ناب هذه الأخت العزيزة ومضت الشهور الأولى من السنة حتى أقبل الربيع لكنه ربيع حزين حمل الينا أسوأ نبأ لم نكن نتوقعه ونعا الينا الربيع على لسان ذلك الأستاذ وقد ترقرقت عينيه دمعتان كبيرتان هما أجل من الوصف والتعبير لم أنس ذلك المشهد المثير إلى يومنا هذا نعم رحلت أختكم ورفيقتكم إلى حيث يرحل الناس أجمعون، رحلت شهيدة المرض، أحبتكم وأحبت الدرس والتحصيل ولكن لاراد لقضاء الله تعلمنا منها جميعا الصبر على بلوغ أعلى الغايات والأهداف لقد صبرت وكان الصبر دوما من أخلاقها، عزاءنا الكبير أنها رحمها الله كانت عاشقة للعلم دؤوبة لايثني عزمها حاجز كسل أو إهمال أو لامبالاة .... بمثل هذه الكلمات انقضى عهد جميل من أيامنا حدث هذا في سنة ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين .. واخذ هذا الأستاذ الجليل على عاتقه إلا أن نقدم جميعا واجب العزاء لأسرة الفتاة بما يليق بمقامها وتقديرا لها، حث الجميع على إنشاء أول نواة تربوية تعليمية في بلدة سيدي سليمان إذ كان ينتقي لقسمنا وغيره أجود الكتب والروايات والقصص يتبادلها الطلبة فيما بينهم مرة كل أسبوع شكر الله له سعيه ورحم الله تعالى تلك الفتاة الطيبة التي بوفاتها أشاعت روح التعاون وحب العلم والحرص عليه في زمن كثرت فيه المغريات واعتقد أن هذه العادة لازالت سارية بين أبناء المدارس على اختلاف مستوياتها إلى يومنا هذا ...
عبد الكريم لراك
الاثنين 3 يوليوز 2006