منقول للأفادة
الفصل الثاني
تجديد الدين والإيمان
• التجديد
• الإسلام والإيمان والإحسان
• شعب الإيمان
تجديد الدين والإيمان
التجديد:
كثر من بين حكام الجبر المرشحون لاسم مجدد القرن. وبعضهم ممن لا يمت إلى الإيمان بصلة ألف في الموضوع. الذهنية الرعوية الاتتظارية التي تعتمد على الغير أن يدبر لها أمرها سائدة، فهم يرسخون الانتظار والقعود بالتزوير ورفع الشعارات.
علماؤنا السابقون بإيمان تناقشوا طويلا لمعرفة مجددي القرون السالفة. ونحن يهمنا أن نعرف معنى التجديد، ومن يجدد، وبم يجدد، وكيف يجدد لا حبا في الإطلاع، لكن تحريا أن يكون جهادنا مستمدا من الهدي النبوي، منضبطا بالسنة النبوية، سائرا على منهاج النبوة.
ثلاثة أحاديث ورد فيها ذكر التجديد:
1- روى الإمام أحمد وحسنه السيوطي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الإيمان يخلق (أي يبلى) في القلب كما يخلق الثوب، فجددوا إيمانكم" وفي رواية: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم". ورواه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك.
2- روى أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
3- روى الإمام أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات، والحديث صححه السيوطي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جددوا إيمانكم"، قيل: "يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا؟" قال: "أكثروا من قول لا إله إلا الله".
تحصل لنا من هذه الأحاديث الشريفة أن الإيمان يبلى فيجب تجديده، يضعف فتتعين تقويته وأن الأمة تكلؤها عناية الله فيبعث سبحانه لها من يجدد لها دينها، وأن الإيمان يعالج من بلاه وضعفه بطب موصوف لا لبس في كنهه وماهيته ووسيلته.
جاء في الأثر أن الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان (وهو القلب) وعمل بالأركان. لكن موطن الإيمان القلب، بل هو منطلق الإيمان. فإن خبت بواعث الإيمان في القلب بطل العمل ونطق اللسان نفاقا. ومتى قوي الإيمان في القلب بتجديده اشتدت بواعث العمل الصالح. فالتجديد المطلوب للأمة هو تجديد بواعثها لتقوم، أفرادا تجدد إيمانهم بالتربية، وجماعة تجددت قوتها بتجدد بواعث أعضائها الإيمانية، بواجب الجهاد واقتحام العقبة.
ليس التجديد تغييرا للثابت من شرع الله، فإن أحكام الكتاب والسنة ماضية إلى يوم القيامة، دعاة العصرنة يودون لو نقصنا من الإسلام هذه الصلاة المستغرقة للوقت، وهذا الصيام المرهق للعمال، وصيرناه إيديولوجية بلباس عصري، لا نرتاب أن الاجتهاد ضروري لتكييف حياة العصر مع شرع الله، فهو تسليم العصر لا عصرنة الإسلام.
يبعث الله عز وجل من يجدد للأمة دينها. اختلف علماؤنا منذ قديم في تعيين مجدد كل قرن، واتفقوا أو كادوا أن مجدد القرن الأول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ونحن ننظر إلى القرن الرابع عشر فنرى فيه رجالا يبرز من بينهم الشيخ البنا بنورانية خاصة، وأثر في تربية هذه الأجيال الصالحة، فلا نبعد أن يكون هو رحمه الله مجدد القرن الماضي.
نحن على عتبة القرن الخامس عشر وليس حديث في العالم إلا عن صحوة الإسلام ويقظته. فهذا التجديد على رأس هذا القرن يعلن عن نفسه بظهور نسأل الله أن يكون سيره حاسما. كما نرجوه جلت عظمته أن يستعملنا لنكون من هذا المن الذي يجدد الله به الدين للأمة. فرأينا أن "مَن" المذكورة في الحديث قد تعني شخصا بعينه كما تعني جماعة يتعاونون على إحقاق الحق بعد إبطال الباطل.
بقيت الوصفة الطبية كلمة لا إله إلا الله، قولها، الإكثار من قولها، باللسان. باللسان أولا. ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الحكم، فكلامه علمي دقيق، ووصفه هنا للطب المجدد للإيمان لا أوضح ولا أبسط منه: الإكثار من قول لا إله إلا الله فجند الله زادهم لا إله إلا الله، كلمة مجددة على اللسان، يكثرون منها. والإكثار لم يعين حده. ونرى أن المئات من المرات لا تكفي، يلزم حزب من لا إله إلا الله آلاف المرات بالعشي والإبكار وما بينهما، بالغدو والآصال، آناء الليل وأطراف النهار.
ألا إنه طب نبوي، قول باللسان أولا، ومع الطب وبعده فجند الله برنامجهم لدحض الطاغوت وإحقاق الحق لا إله إلا الله، لا معبود إلا إياه، لا حاكم إلا هو، لا مشرع إلا هو، لا مرغوبا في رضاه ومخوفا من غضبه إلا هو.
إن الله عز وجل يقول:ألا بذكر الله تطمئن القلوب.(سورة الرعد، الآية: 28) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله" رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن جابر بسند صحيح.
وقد جمعت بفضل الله أكثر من سبع وعشرين حديثا في فضل لا إله إلا الله، فالحمد لله دعاء أن يجدد إيماننا بالإكثار من قولها، باللسان أولا، بالاستغراق فيها. والإكثار منها ركن أساسي في التربية كما سنرى إن شاء الله.
الإسلام والإيمان والإحسان:
لكلمة إسلام معنى عام يشمل في مدرجته كل معاني العبودية لله تعالى، وله معنى خاص عندما يطلق على درجة من درجات العبودية. إنه لا بد لنا من تصنيف الناس في مجتمعاتنا الإسلامية لنعرف أين كل واحد من هذا السلم المرتقي من إسلام لإيمان لإحسان. ثم لا بد لنا عند التربية أن ننتظر ثمرة التربية، وهي ارتقاء أصحابنا من إسلام لا يتميز عن عامة الناس، إلى إيمان يتكامل فيؤهلهم للدخول في الصف، ثم يتكامل فيؤهلهم للجهاد في الصف، ثم ترق ثالث يرفع ذوي الاستعداد من رجال الصف إلى مرتبة الإحسان.
أتتنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مروية عنه في جلساته وخطبه ووعظه ووصاياه. لكن حديث جبريل المشهور الذي رواه الشيخان وأصحاب السنن عن عمر جاءنا في حلة من التشويق والغرابة والتفصيل التربوي. جاء جبريل فرآه الصحابة وسمعوه وتلقوا حواره الغريب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ذاك إلا لأهمية هذا التفصيل الذي لا نجده في حديث غيره.
قال عمر: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخديه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت! فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال فأخبرني عن الإيمان! قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت! قال: فأخبرني عن الإحسان! قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة! قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل! قال: فأخبرني عن أماراتها! قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ثم انطلق. فلبث مليا، ثم قال لي (أي رسول الله صلى الله عليه وسلم): يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم! قال: إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
احتاج الأمر لأهميته أن ينزل جبريل على صورة رجل ويحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم حوارا مدهشا ليعلمهم دينهم. الدين إسلام وإيمان وإحسان وترقب للساعة، والدين الذي يجدده الله للأمة بمن يصطفيه من خلقه هو كل هذا، لا يتبعض.
ومن كونه لا يتبعض نلح هنا على اقتحام العقبة، وقد أخذنا العبارة من كلام الله تعالى، صعود في درجات الإسلام والإيمان والإحسان.
جند الله لا بد أن يكونوا كلهم من المؤمنين، لا يكفي أن يكونوا مسلمين بهذا المعنى الخاص. لكن سعي كل واحد منهم لاستكمال إيمانه فالترقي إلى مرتبة الإحسان أمر أساسي بدونه ترتخي الصلة بالله عز وجل وتفتر، فلا مفر لها إن فتر شوق العبد إلى ربه وحب لقائه إلا دركات النفاق.
القابليات للكمال الإحساني متفاوتة عند العباد، فمنهم من لا استعداد له لتجاوز الإحسان الذي كتبه الله على كل شيء كما جاء في الحديث، يتقن أعماله العبادية والجهادية والمهنية حتى يكون نموذجا. وهذا إحسان ينتظر من كل المؤمنين. ومن العباد من يكون إحسانه مع إحسان الإتقان موقفا دائما أمام الله عز وجل، ذكرا لجلاله وحضورا معه ومع أمره وشريعته، وشوقا إلى النظر إلى وجهه، وحبا للقائه والموت في سبيله.
أولياء الله درجات، والولاية الكبرى، ولاية فتح البصائر ونورانية الشهادة بين الناس بالقسط درجة خاصة يصطفي الله لها من يشاء من عباده.
لكن الوقوف على الباب، والتذلل بين يدي رب الأرباب من كسب العبد. فيجب وجوبا أكيدا أن يربى جند الله على لزوم باب العبودية، امتثالا حريصا دقيقا لأمر الله عز وجل، ومناجاة له، وحضورا قلبيا عند ذكر اللسان وخارجه، حتى يصبح العبد المؤمن ذاكرا ربه، قائما بين يديه لا يفتر. على هذا يتوقف نجاح القومة الإسلامية، وهذا القيام بين يدي الله عز وجل هو لب القومة ومغزاها وروحها.
نقرأ عند بعض علمائنا ذكرا للكمال والوراثة، ويخيل لبعضنا أن كمال الوراثة ينحصر في التحصيل العلمي. كلا والله! إنما الكمال الاختصاصي وراثة لمقامات الإحسان. وهو اختصاص إلهي لا يدخل كسب العبد فيه إلا من حيث كون التحصيل العلمي الضروري والتربية يهيئان للدخول على باب دخل منه إلى حضرة القرب من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ينبغي لجند الله أن يناجوا ربهم في الصلاة وفي أوقات الذكر بما علمنا سبحانه أن نطلب، وهو أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم. ومع المناجاة القولية إخبات في القلب وتذلل، واستفتاح لأبواب رحمته، يختص برحمته من يشاء، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وإذا أحبك ألهمك الطلب.
شعب الإيمان:
روى الشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة -عند البخاري بضع وستون- (زاد مسلم): أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
نجد أن لا إله إلا الله، إكثارا من قولها أولا، هي أعلى شعب الإيمان لا ننس هذا، فبنسيانه نظهر استهانتنا بصدق وبيان المعلم الرباني صلى الله عليه وسلم.
سواد جند الله لا بد أن يكونوا مؤمنين، لا يكفي أن يكونوا مسلمين بالمعنى الخاص، مع التوجه الواجب لمراتب الإحسان.
رأينا أن التجديد هو تجديد الإيمان بعد بلاه، وأن الدين الذي أتى جبريل ليعلمه المؤمنين هو الدين الذي يجدده من يبعثهم الله على رأس كل مائة. ورأينا أن القرآن الكريم يخاطب المؤمنين لا المسلمين ولا المحسنين، ذلك أن من المسلمين من يأتي للأعمال الظاهرة من شهادة وصلاة وغيرهما وهو منافق، فهذا لا يخاطب بالقيام على دين الله. ولأن الإحسان درجة خاصة واصطفاء، ينبغي أن يتوق إليهما كل المؤمنين، لكن تعيين أصحابهما ليس من اختصاص البشر.
فبقي المؤمنون، ولا بد أن تكون لهم مواصفات بها يعرفون، وتربية تهيئهم ليحملوا مسؤولية تنفيذ أمر الله، وتنظيم يجعل منهم جندا قادرين على التنفيذ، وقانون يضبط زحفهم إلى الجهاد.
الحديث النبوي عن شعب الإيمان يعطي وسيلة التربية القلبية لا إله إلا الله، ويصف ثمرة الإيمان في خلق الحياء، ويتنزل إلى تلمس دلائل الإيمان في أسهل الأعمال وأبسطها كإماطة الأذى عن الطريق. هذه الثلاثة نماذج للسلوك الرباني النوراني: لا إله إلا الله ونورانيتها -وللتهذيب الوجداني: الحياء والخير الذي يأتي به- وللمشاركة الفعلية في الحياة العامة الجماعية: إماطة الأذى عن طريق المسلمين.
وقد ألف في شعب الإيمان الإمام الحافظ أبو عبد الله الحليمي، والإمام الحافظ عبد الله البيهقي وغيرهما كثير، رضي الله عن الجميع.
ورضي الله عنا إذ نلتمس على أثرهم المنهاج النبوي للتربية والتنظيم والجهاد في جمع شعب الإيمان وترتيبها وتنسيقها.
ألفوا شعب الإيمان وهم رجال الحديث والفقه على نسق وافق قصدهم من جمع حديـث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديمه -كما فعل الحليمي في كتابه الذي طبع أخيرا والذي نقل عنه علماؤنا كثيرا عبر الأجيال- ككل متمسك يصور حياة الإيمان في قلب المؤمن وقالبه وفي المجتمع.
ولنا اهتمامات لعصرنا وما بعده، ونواجه جهل الناس بإسلامهم فنألف تأليفا غير تأليفهم. لا نأتي بجديد بدعي، لكن نرتب مراحل التربية والتنظيم والجهاد، ونحسب سبعا وسبعين شعبة متدرجة ما فيها حرف واحد خارج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أتينا بالترتيب فقط لمقاصد تربوية تنظيمية، فهي سياسة شرعية لا غبار عليها. وقسمنا السبع والسبعين شعبة عشر فئات سميناها الخصال العشر، وجمعناها في كتاب يضم أكثر من ألفي حديث نبوي يسر الله تحقيقه وطبعه. ونبسط هنا إن شاء الله محصول تدبرنا لشعب الإيمان، نجعلها صلب المنهاج النبوي ودليله.
تتدرج الخصال العشر من الخطاب القرآني للإنسان وندبه إياه لاقتحام العقبة والكينونة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
فحصول الإنسان في مرحمة الجماعة، باكتشافه أخوتها الدافئة الرفيقة الباذلة الحنون، يحصل الخصلة الأولى: الصحبة والجماعة، ثم يترقى من خصلة إلى خصلة حتى يحصل الخصلة العاشرة وهي: الجهاد. وبذلك تكون تربيته تمت، وعضويته في تنظيم جند الله استوثقت. وبتحصيل جند الله جماعة لفضائل شعب الإيمان يكون التنظيم قد استوفى خصائص حزب الله المنصورين الغالبين.
إن شعب الإيمان، كما يدل على ذلك المعنى اللغوي لشعب، روافد يتألف منها نهر الإيمان. فإن تصورناها خيوطا إيمانية تربط العبد بربه فهي تكون، إن فتلت وأتقن تأليف رجالها حتى أصبح خلقهم القرآن، حبل الله المتين الممتد من السماء رحمة إلى الأرض، حيث تظهر عملا حكيما وجهادا مجددا. وعندئذ فالتمسك بجماعة المسلمين في الأرض استمساك بالعروة الوثقى.
نرجع إن شاء الله إلى شعب الإيمان والخصال العشر في الفصل الخامس بعد فصلين في عموميات التربية والتنظيم.