بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
يقول الله عز وجل:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}سورة الطلاق الآية 4،وهذه الآية عامة في الطلاق وفي حالة وفاة الزوج.
قال الإمام الطبري:[ والصواب من القول في ذلك أنه عامٌ في المطلقات والمتوفى عنهن، لأن الله جل وعز عمَّ بقوله بذلك فقال:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}ولم يخصص بذلك الخبر عن مطلقة دون متوفى عنها، بل عمَّ الخبر به عن جميع أولات الأحمال، إن ظن ظانٌ أن قوله:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}في سياق الخبر عن أحكام المطلقات دون المتوفى عنهن، فهو بالخبر عن حكم المطلقة أولى بالخبر عنهن، وعن المتوفى عنهن، فإن الأمر بخلاف ما ظن، وذلك أن ذلك وإن كان في سياق الخبر عن أحكام المطلقات، فإنه منقطع عن الخبر عن أحكام المطلقات، بل هو خبرٌ مبتدأٌ عن أحكام عِددِ جميع أولات الأحمال المطلقات منهن وغير المطلقات، ولا دلالة على أنه مرادٌ به بعض الحوامل دون بعض من خبرٍ ولا عقلٍ، فهو على عمومه لما بينا] تفسير الطبري 23/455.
وهذا الذي قرره الإمام الطبري هو قول جمهور أهل العلم من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار والأئمة الأربعة حيث قالوا إن الحامل إذا مات عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، والقول المخالف بأنها تعتد بأبعد الأجلين قول ضعيف، انظر نيل الأوطار 6/324
قال ابن كثير:[ وقوله:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}يقول تعالى: ومن كانت حاملاً فعدتها بوضعه، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفواق ناقة - وقت حلبها -في قول جمهور العلماء من السلف والخلف، كما هو نصُ هذه الآية الكريمة، وكما وردت به السنة النبوية.] تفسير ابن كثير6/243.
وقال الإمام البخاري في صحيحه:[ باب{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}وأولات الأحمال واحدها ذات حَملٍ. حدثنا سعد بن حفص حدثنا شيبان عن يحيى قال أخبرني أبو سلمة قال جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالسٌ عنده، فقال أفتني في امرأة ولدتْ بعد زوجها بأربعين ليلة. فقال ابن عباس: آخر الأجلين. قلت أنا:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، قال أبو هريرة أنا مع ابن أخي- يعنى أبا سلمة- فأرسل ابن عباس غلامه كُريباً إلى أم سلمة يسألها، فقالت: قُتل زوجُ سُبيعة الأسلمية وهى حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو السنابل فيمن خطبها] صحيح البخاري.
وروى البخاري ومسلم (عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة:أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية، فيسألها عن حديثها وعمَّا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته. فكتب عمر بن عبد الله بن الأرقم إلى عبد الله بن عتبة يخبره أن سبيعة بنت الحارث أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة - وهو من بني عامر بن لؤي- وكان ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلَّت- طهرت - من نفاسها تجملت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك -رجل من بني عبد الدار- فقال لها: ما لي أراك تجملت للخُطَّاب ترجين النكاح، فإنك والله ما أنت بناكحٍ حتى تمرَّ عليك أربعةُ أشهر وعشرٌ. قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه في المتوفى عنها زوجها وهي حامل قال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة؟ أنزلت سورة النساء القصرى- أي سورة الطلاق- بعد الطولى- أي سورة البقرة- {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}رواه البخاري. يشير ابن مسعود رضي الله عنه إلى أن قوله تعالى:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}سورة الطلاق الآية 4،نزلت بعد قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}سورة البقرة الآية 234. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:[ ومراد ابن مسعود رضي الله عنه إن كان هناك نسخٌ، فالمتأخر هو الناسخ، وإلا فالتحقيق أن لا نسخ هناك، بل عموم آية البقرة مخصوص بآية الطلاق] فتح الباري 14/29.
وقال الشوكاني بعد أن ذكر الأدلة لقول الجمهور:[وهذه الأحاديث والآثار مصرحةٌ بأن قوله تعالى:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}عامةٌ في جميع العِدد، وأن عموم آية البقرة مخصصٌ بها.والحاصل أن الأحاديث الصحيحة الصريحة حجةٌ لا يمكن التخلص عنها بوجه من الوجوه، على فرض عدم اتضاح الأمر باعتبار ما في الكتاب العزيز، وأن الآيتين من باب تعارض العمومين، مع أنه قد تقرر في الأصول أن الجموع المنكرة لا عموم فيها، فلا تكون آية البقرة عامة، لأن قوله:{ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} من ذلك القبيل فلا إشكال ] نيل الأوطار6/325.
إذا ثبت أن القول الصحيح في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هو وضع الحمل، فإن الحمل الذي تنقضي به العدة محل خلاف بين الفقهاء، ولا بد أن نعرف أولاً أن الحمل عند الأطباء[هو عملية فسيولوجية طبيعية تبدأ من وقت تلقيح البويضة إلى وقت خروجها من الرحم، سواء بالولادة أو بالإجهاض، ويتم الحمل عندما تخرج البويضة الناضجة من مبيض المرأة في منتصف الفترة الواقعة بين طمثين متتاليين، فإذا حدث جماعٌ خلال هذه الفترة يتحد الحيوان المنوي مع البويضة الناضجة داخل قناة فالوب، ويحدث التلقيح وبعدها تتحرك البويضة الملقحة التي سرعان ما تتحول إلى كتلة من الخلايا من قناة فالوب إلى الرحم خلال أربعة أو خمسة أيام تلتصق بجدار الرحم الذي بدوره يقوم بتغذية الكتلة من الخلايا لتتحول إلى جنين متكامل التكوين، ويمكن أن يظهر الحمل في تحليل الدم بعد سبعة إلى عشرة أيام من إخصاب البويضة، و لكن عادة يتم إجراء الاختبار بعد أسبوعين من تاريخ الإباضة للحصول على نتائج أكيدة] عن شبكة الإنترنت.
وأما فقهاؤنا فقد لخصت أقوالهم الموسوعة الفقهية الكويتية [ والمراد بالحمل الذي تنقضي العدة بوضعه ما يتبين فيه شيءٌ من خلقه ولو كان ميتاً أو مضغةً تصورت، ولو صورةً خفيةً تثبت بشهادة الثقات من القوابل، وهذا عند جمهور الفقهاء ( الحنفية والشافعية والحنابلة ). وكذلك إذا كانت مضغةً لم تتصور لكن شهد الثقات من القوابل أنها مبدأ خلقة آدمي لو بقيت لتصورت في المذهب عند الشافعية، وهو رواية عند الحنابلة لحصول براءة الرحم به.وقال الحنفية وهو قول آخر عند الشافعية ورواية عند الحنابلة:لا تنقضي به العدة؛ لأن الحمل اسم لنطفة متغيرة، فإذا كان مضغة أو علقة لم تتغير ولم تتصور فلا يعرف كونها متغيرة إلا باستبانة بعض الخلق. أما إذا ألقت نطفةً أو علقةً أو دماً أو وضعت مضغةً لا صورة فيها فلا تنقضي العدة به عندهم. وقال المالكية: إن كان دماً اجتمع بحيث إذا صب عليه الماء الحار لم يذب يعتبر حملاً تنقضي العدة بوضعه.] الموسوعة 16/276. ومن الفقهاء من يرى أن العدة تنقضي بمطلق الوضع كما هو ظاهر الآية الكريمة،قال الإمام النووي:[ وسواء في حكم النفاس كان الولد كامل الخلقة أو ناقصها أو حياً أو ميتاً ولو ألقت مضغةً أو علقةً، وقال القوابل إنه مبتدأ خلق آدمي، فالدم الموجود بعده نفاس] روضة الطالبين 1/64،
وقال الإمام النووي أيضاً:[ قال أصحابنا:لا يشترط في ثبوت حكم النفاس أن يكون الولد كامل الخلقة، ولا حياً، بل لو وضعت ميتاً أو لحماً تصور فيه صورة آدمي أو لم يتصور، وقال القوابل:إنه لحم آدمي ثبت حكم النفاس؛ هكذا صرح به المتولي وآخرون، وقال الماوردي ضابطه أن تضع ما تنقضي به العدة] المجموع 2/487،
وقال الأمير الصنعاني:[ والحملُ لغةً يصدق على غير المتخلق، ولم يأت عن الشارع اشتراط المتخلق، والآيات وردت بلفظ وضع الحمل.وقد أخرج عبد بن حميد عن الحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النخعي وقتادة أنها إذا أسقطت المرأة أو وضعت علقةً أو مضغةً، فقد انقضت العدة، فهذه أقوال السلف تؤيد البقاء على المعنى اللغوي، والدليل على من اشترط التخلق ]منحة الغفار 1/353.
وهذا الذي أرجحه حيث إنه وبعد تقدم العلم والطب فإنه يمكن معرفة ثبوت الحمل وتخلق الجنين في فترة أقل مما ذكره جمهور الفقهاء بكثير، وبناءً عليه فإن ظاهر الآية الكريمة{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} يدل على أن العدة تنتهي بوضع الحمل، بغض النظر هل الجنين كاملٌ أو غير كامل، تبينت خلقته أم لم تتبين، نزل حياً أو ميتاً، علقةً كان أو مضغةً، فإذا تبين من خلال الفحص الطبي تخصيب البويضة، واستقرارها في الرحم،فإن ذلك مبتدأ حمل، ويظهر ذلك خلال 48 ساعة، بفحص هرمون الحمل(HCG) بعد استقرار البويضة المخصبة في الرحم، أو من خلال جهاز السونار، الذي يصور البويضة المخصبة في الرحم بعد أسبوعين، أو بعد فحص البول خلال مدة كافية. فإذا أسقطت المرأة بعد ذلك، وشهد أكثر من طبيب أن ما أسقطته هو نطفة لإنسانٍ أو علقة أو فوق ذلك، ويظهر ذلك للأطباء من خلال الفحوصات الطبية المختلفة. فكل ذلك بينة يُحكم بها على انتهاء العدة بوضع الحمل] أحكام المرأة الحامل ص 112-113 بتصرف.
وخلاصة الأمر أن عدة المرأة الحامل تنتهي بوضع الحمل، سواءً كانت مطلقةً أو متوفى عنها زوجها، وأن الحمل الذي تنقضي العدة به إذا أسقطته، هو مطلق الحمل بعد ثبوته طبياً، بغض النظر عن الجنين الساقط، هل هو كاملٌ أو غير كامل، تبينت خلقته أم لم تتبين، نزل حياً أو ميتاً، علقةً كان أو مضغةً، وذلك لعموم قوله تعالى:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. ولأن من مقاصد العدة استبراء الرحم وقد حصل بالوضع بغض النظر عن عمر الجنين.
والله أعلم.