التنمية البشرية والحكامة الديموقراطية بالمغرب: جدلية التقاطعات الايجابية
بقلم الدكتور امحمد الزرولي
تشكل التنمية البشرية ركيزة أساسية للتنمية الشاملة والمندمجة وقيمة مضافة لبناء صرح مجتمع ديموقراطي حداثي وشرط ضروري لتجذير المواطنة وتفعيل حقوق الإنسان ولتكريس دولة الحق والقانون• إن هذه الأطروحات المؤسسة على مركزية التنمية البشرية توجد اليوم في صلب النقاشات المرتبطة بالفعالية الكلية لاستراتيجيات وسياسات التنمية، وهي بذلك تكرس منعطفا جديدا بالنسبة للمقاربات التقليدية للتنمية• فالقطيعات الإبستمولوجية والسياسية والايديولوجية والاستراتيجية التي أحدثها مصطلح التنمية البشرية ترتب عنها تغير على المستوى المفاهمي بالنسبة للتنمية الشاملة وتحولات عميقة في العلاقات ما بين أبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، أثرت بشكل كبير على مسلسلات تحديث ودمقرطة الدول• إن مركزية مفهوم التنمية البشرية وتعقد ارتباطاته بالحكامة الديموقراطية والتنمية الشاملة تطرح إشكالية تقاطعاتهما، خاصة في الدول الصاعدة مثل المغرب، التي راهنت على الليبرالية الاقتصادية والتعددية السياسية والانتقال الديموقراطي، ولكنها تبقى معوقة بطبيعة تنميتها البشرية، بحيث يحتل المغرب الرتبة 123 من أصل 177 دولة خلال سنة 2004 حسب التقرير الدولي للتنمية البشرية 2006 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية• فعلى الرغم من الانجازات المحققة، مازالت بلادنا تعاني من العجوزات الاجتماعية والعجوزات الديموقراطية والمرتبطة بالنوع الاجتماعي وكذا من ضعف الإندماج الداخلي والخارجي لهياكله الاقتصادية• وهذه مجموعة من العوامل التي تهدد تماسكه الاجتماعي واستقراره الداخلي، وتعيق إقلاعه الاقتصادي وتساهم في تعطيل انتقاله الديموقراطي• وعليه، كيف السبيل لتكسير الحلقات المفرغة لهذه العجوزات وخلق حلقات متداخلة لتنمية شاملة ومندمجة؟ أي ممارسات ديموقراطية اعتمدتها وأية علاقات هيكلية تفضيلها ما بين التنمية البشرية والحكامة الديموقراطية بهدف تدعيم تفاعلاتهما والاسهام في تقدمهما المتوازن في إطار تحقيق تدريجي لمشروع مجتمع حداثي وديموقراطي؟ يتبين من هذه الأسئلة الأساسية جدلية العلاقات ما بين الديموقراطية والتنمية ودولة الحق والقانون واحترام حقوق الإنسان والضرورة الملحة بالنسبة للمغرب في تسريع أنساق تقدمه في كل الأوراش التنموية مع العمل على تناسقها وترابطها نظرا للتسابق الحاصل على المستوى العالمي• وحتى يتسنى رفع تحديات التنمية البشرية والحكامة الديموقراطية في تداخلاتها الايجابية، تتمحور المقاربة المقترحة على ثلاثة محاور: - أولا : تعميق اختيارات مشاريعنا المجتمعية الوحدوية مع ضمان تناسق جدلياتها في إطار توافقات ومواثيق وطنية - ثانيا: اعتماد استراتيجية هجومية للضبط الاجتماعي بارتباط وثيق بالحكامة الديموقراطية - ثالثا: تنمية المواطنة النشيطة والديمقراطية التشاركية وسلطة القرب•
1) تعميق اختيارات مشاريعنا المجتمعية الوحدوية وضمان تناسق جدلياتها في إطار توافقات ومواثيق وطنية• تعتبر الديموقراطية التي تشكل ركيزة اساسية لبناء صرح مجتمع حداثي، النظام الأقل سوءا في الأنظمة السياسية التي ابتكرتها البشرية لكونها تعتمد على احترام الحرية والمساواة• إنها ليست غاية في حد ذاتها، ذلك أنها تمثل اختيارا مجتمعيا لمواجهة الطموحات الجماعية الوطنية والحكامة الجيدة للشؤون العامة وكذا لتحسين رفاهية المواطنين• وتستلزم الديموقراطية انتخابات حرة وشفافة والتعددية السياسية وحرية التعبير وفصل السلط• بيد أنها لا تقتصر على هذا، بحيث أن الديموقراطية كمجموعة متجانسة من المبادئ والقيم والضوابط المرتبطة بالتنظيم الاجتماعي والسياسي من أجل تقسيم جيد للعمل ما بين السلط داخل الدولة، فهي توفر ميكانزمات مؤسسية لضمان فض النزاعات بشكل توافقي، والتدبير السليم للتحولات والتناوب على الحكم بناء على ثقافة تقديم الحساب ونتائج الاقتراع العام• غير أن الممارسة الديموقراطية السليمة والبناءة هي التي تقدم قيمة مضاعفة على مستوى التنمية وهي التي لا ينتج عنها إضعاف هيكلي للدولة ولمؤسساتها الدستورية• إن التشاؤم الذي يطبع التحليل الموضوعي لأنساق تنميتنا لا يجب أن يحول دون التفاؤل الذي يجب أن يطبع التفكير وإرادية العمل الاستراتيجي من أجل مواجهة أفضل للتحديات المستقبلية• وأهم التحديات يكمن في تعميق اختيارات مشاريعنا المجتمعية الوحدوية والجريئة مع ضمان تناسق جدلياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وترجمتها على شكل استراتيجيات وسياسات وبرامج مندمجة للتنمية، وذلك في إطار توافقات ومواثيق وطنية ما بين أطراف التنمية حول الأوراش الكبرى مثل انفتاح المغرب على العالم واندماجه الايجابي في الفضاء الأورو متوسطي، اعتماد التخطيط الاستراتيجي للتنمية، إصلاح نظام التربية والتكوين، إعداد التراب الوطني، البناء الجهوي، اللامركزية واللاتركيز، التشغيل، الصحة، القضاء على الفقر، اقتصاد المعرفة والتقنيات الجديدة للإعلام والاتصال، استعمالات الماء، التطهير والمحافظة على البيئة والتنميةالمستديمة••• ويجب أن يندرج إنجاز الأعمال الأساسية للتنمية في إطار مقاربات مستقبلية على المدى البعيد ومخططات استراتيجية على المدى المتوسط، كإطار لبلورة توافقية للسيناريوهات المستقبلية الإرادية للتنمية - مع اللجوء إلى الشراكات الإستراتيجية وعقود التخطيط والبرامج المندمجة وكذا البرمجة المتعددة السنوات للمالية العامة وبلورة الميزانية على أساس أهداف كبرى متكاملة• وعلاوة على الإصلاحات الضرورية لضمان استقرار الإطار الماكرو اقتصادي، يتعين متابعة التأهيل المؤسساتي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي مع مواجهة العوامل المعيقة للتنمية• إن المغرب يسير في الاتجاه الصحيح، وهو يتقدم على الواجهتين الاقتصادية والبشرية ولكن بخطى غير كافية نسبيا لمواجهة تحديات التنمية• فهو مطالب بتجاوز المشاكل المرتبطة ببطء مسارات نموه الاقتصادي وبأنساقه المتوسطة للتنمية البشرية، وبالتقطب المجالي القوي للأنشطة الاقتصادية، وبضعف تنوع النظام الإنتاجي وكذا بالفوارق الاجتماعية والجهوية الكبرى القائمة• وهو أيضا مطالب بتسريع سير الإصلاحات الماكرو اقتصادية والقطاعية واستغلال أمثل وكلي لآثار تلك التي تم انتهاجها وذلك لخلق تفاعلات ولرفع الزيادات في الإنتاجية والتنافسية وإنتاج الثروات ليتمكن من إعادة توزيع نتائجها ومن تحسين ظروف عيش السكان• كما يتعين كذلك اعتماد أعمال إرادية يمكن أن تنصب على سبيل المثال على اختيار أنجع للاستثمارات والتكنولوجيا خاصة في القطاعات الحديثة والمتميزة بقيمتها المضافة العالية، وتنمية تنافسية المجالات والتخصص الجهوي واندماج الجامعات مع النظم الانتاجية، وتقوية نجاعة نظام التربية والتعليم والترابط ما بين التربية والتكوين والتشغيل وكذا بتعميق مسلسل اللامركزية واللاتركيز والبناء الجهوي، وذلك في إطار توسيع أسس النمو والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية•
2) اعتماد استراتيجية اجتماعية هجومية بارتباط مع الحكامة الديموقراطية• خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، انتهج المغرب قطيعات عميقة في تدبير الشؤون الاجتماعية والسياسية ترجمت بالانتقال من المشروطية الاجتماعية والانفتاح السياسي إلى تسريع التنمية البشرية واعتماد الانتقال الديموقراطي• وهكذا تم اعتماد مرجعيات جديدة في مجال التنمية البشرية ودولة الحق والقانون والحكامة واحترام حقوق الإنسان• كما تم اعتماد محددات جديدة بهدف المصالحة مع ماضي حقوق الإنسان ومع وضع المرأة ومع واقع العالم القروي غير النافع ومع مشاكل هوامش الحواضر والأحياء الحضرية المهمشة• وفي هذا الصدد، وحتى يتسنى لها إنتاج التحولات الاجتماعية الهامة، فإن إشكاليات التنمية البشرية ومحاربة الفقر والفوارق يجب، ليس فحسب، إدماجها في صلب استراتيجية هجومية للضبط الاجتماعي وفي قلب الديناميات الشمولية للتنمية، بل كذلك ربطها بشكل وثيق بالحكامة الديموقراطية وإقرار دولة وطنية حديثة• وعلى الرغم من المقاومات والنزوعات المحافظة، فإن تغيرات عميقة بدأت تأخذ مجراها وأنماط جديدة للحكامة تم اعتمادها وتعبر عن تحولات استراتيجية حقيقية، كما أنها تبشر، من دون شك، بحدوث قطيعة على مستوى طبيعة ثقافية التنمية• وفي هذا السياق، دشنت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أعطى انطلاقها صاحب الجلالة في 18 ماي 2005، قطيعة مع المقاربات والاستراتيجيات السابقة للعمل الاجتماعي وأقرت تحولا مفاهيميا على مستوى التنمية الاجتماعية• وباعتبارها منعطفا حقيقيا في مجال تسريع التنمية البشرية ومحاربة الفقر والتهميش، فإن هذه المبادرة تندرج تلقائيا في صلب استراتيجية اجتماعية هجومية، وتقوية دعائم التلاحم الاجتماعي وإقرار دور طلائعي للدولة في مجال ضمان الشروط الذاتية والموضوعية لممارسة الحقوق والواجبات المرتبطة بالمواطنة• وعلى ضوء الفعالية الاجتماعية لمشاريعها والآثار العميقة لبرامجها المتكاملة على السكان المعنيين والمجالات الترابية ذات الأولوية، فإن هذه المبادرة سيكون لها آثار سياسية عميقة ومخلفات على مستوى التأهيل الاجتماعي وعلى هيكلة الحقل الاجتماعي والسياسي والايديولوجي والديني من حيث تقوية المشروعية أو إضعافها بالنسبة للقوى السياسية القائمة، والحكامة الديموقراطية وتكريس المواطنة المسؤولة• وفي هذا الصدد، سيكون للأعمال التقييمية وتتبع تطور المؤشرات التي سيضطلع بها مرصد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، الذي اجتمع مجلسه في بداية دجنبر 2006، دورا أساسيا في الرفع من الفعالية الاجتماعية ومن آثار المشاريع التي ستنجز في إطار هذه المبادرة• وفي نفس الاتجاه، أدخلت مدونة الأسرة لسنة 2004 قطيعة لصالح وضع عائلي أكثر مساواة ويعترف بالمسؤولية المشتركة للزوجين داخل الأسرة، وهو بذلك يساهم في إقرار مساواة مسؤولة وأقل تفاوت ما بين الزوجين• بيد أن هناك إشكاليات أخرى ذات طبيعة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية معنية في هذا الصدد، ويتعين استحضارها خاصة بهدف الادماج العادل لنساء ورجال الطبقات الوسطى والفقيرة في ديناميات التنمية• وهنالك أيضا قطيعة ذات بعد سياسي وإيديولوجي مرتبطة بخلق هيأة الإنصاف والمصالحة بهدف معرفة الحقيقة حول الممارسات السابقة في مجال انتهاك حقوق الانسان لتجنب تكرارها وتعويض الضحايا عن الأضرار الفردية والجماعية التي لحقت بهم ومصالحة المغاربة مع ذاكرتهم التاريخية والعمل على حفظها• إن العمل الهام الذي أنجزته هيأة الإنصاف والمصالحة يستحق الاحترام كتجربة فريدة في العالم العربي، إلا أن المقاربة المعتمدة من طرف الهيأة في ميدان تعويض الأضرار الجماعية تبدو اختزالية ومحدودة لكونها أبقت في الظل مجموعة من جهات ومناطق البلاد التي كانت ضحية لتجاوزات خطيرة في ممارسة السلطة وتم الاجهاز على حقها المشروع في التنمية لسنوات عديدة• وفي نفس السياق، يجب التذكير بالمقاربة المتميزة لتقرير خمسينية التنمية البشرية وآفاق 2025 والمحتوى القيم لهذا التقرير الذي يتعين مناقشة مضمونه لكونه قام بتقييم موضوعي للأنساق الماضية للتنمية البشرية واقترح آفاقا لسنة 2025 لمجابهة تحديات التنمية الشاملة، وذلك في إطار التملك الإرادي لمستقبل أفضل للمغرب• ويتعلق الأمر هنا بعمل من العيار الكبير كان لنا شرف الإسهام المتواضع فيه، وهو عرض للنقاش بالنسبة للأطراف• وما عدا إذا اعتبر ذلك من مسؤولية السياسيين فإن التطبيق العملي لآفاق 2025، مع رفع سقفها إلى 2030، وترجمتها على شكل استراتيجيات وسياسات وبرامج عمل مرقمة متوسطة المدى، كان يستلزم اهتماما أكبر وتحليلا أوسع لإثارة النقاشات التي سيحدثها التقرير من دون شك، خاصة على أبواب الانتخابات النيابية لسنة 2007 • ومما لا شك فيه، فإن المقاربتين المتكاملتين المعتمدتين من طرف كل من هيأة الإنصاف والمصالحة وتقرير خمسينية التنمية البشرية يحدوهما الدفاع عن الحق المشروع في التنمية مع احترام كرامة الانسان وحقوقه، وهما بذلك تؤسسان لثقافة جديدة للتنمية مبنية ليس على استمرارية المواجهات بين الأطراف، بل على العكس من ذلك على القطيعات الإيجابية المرتكزة على التحالفات الاستراتيجية والمفاوضات والحوار البناء•
3) تنمية المواطنة النشيطة والديموقراطية التشاركية وسلطة القرب إن ثقافة جديدة للتنمية تضع في صلب اهتماماتها إقرارا تدريجيا لدولة حديثة وديموقراطية واجتماعية ومجالية يجب أن ترتكز أساسا على الديموقراطية التشاركية والمواطنة النشيطة واحترام دولة الحق والقانون وحقوق الإنسان والمبادرة الخاصة والمساواة في حظوظ الولوج للتنمية وكذا التضامن الإيجابي• إن مضمون وقوة الدولة الحديثة والديموقراطية والاجتماعية والمجالية/ الترابية بل وحتى سبب وجودها يكمن في قدرتها على التطوير المتتالي للرفاهية الاجتماعية والثقافية لمواطنيها، وعلى تحسين ظروف عيشهم وعملهم أينما استقروا وعلى تقوية السلطات الجهوية والمحلية وتنافسية المجالات وعلى ضمان الحد الأدنى في ميدان التجهيزات والخدمات الاجتماعية الأساسية، قصد توفير الشروط الموضوعية والذاتية لممارسة المواطنة والمشاركة الديموقراطية وكذا المساواة في حظوظ الولوج للتنمية للجميع و ذلك على أساس مؤشر يوضع لهذا الغرض على غرار مؤشر التنمية البشرية• وفي هذا المنظور، إذا كان من الضروري تكثيف المجهودات المبذولة في مجال إعادة هيكلة الحقل الديني في إطار تطهير الممارسات الدينية واقتلاع الحركات الدينية المتطرفة والأصولية، فإن تعميق ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان وتسريع التنمية البشرية يجب أن ترميا من جهتهما إلى إقرار ممارسات سياسية حديثة وتنمية ممارسات ديموقراطية نظيفة وتجذير المواطنة النشيطة والمسؤولة• إن المواطنة النشيطة والديموقراطية التشاركية تستلزمان تحديث هياكل الدولة وممارسة لسلطة قريبة من المواطنين ومن حاجياتهم وتتطلبان مؤسسات ديموقراطية ومنظمات سياسية حديثة وكذا إدماجا أمثل لأهداف العدل والتضامن والتنمية البشرية• وفي هذا الصدد، يتعين القيام بأعمال لخدمة أهداف الحكامة الديموقراطية والتنمية البشرية المستدامة مثل محاربة الرشوة وتطهير الحقل السياسي وإعادة الاعتبار للعمل السياسي وتخليق الحياة العامة واعتماد الشفافية وثقافة تقديم الحساب بالنسبة للانتخابات البرلمانية والجماعية••• إن تسريع التنمية البشرية وتقوية الحكامة الديموقراطية يجب أن يخضعا لدينامية التقاطعات الايجابية وأن يتعاضدا كلاهما البعض في إطار حلقات متصاعدة للتنمية تهدف إلى تحرير المواطنين وتطوير قدراتهم البشرية وحرية الاختيار لديهم وتعميق مشاركتهم في الأوراش الاستراتيجية للتنمية والديموقراطية والبناء الإرادي لمستقبل أفضل لبلادنا.
سوسيواقتصادي وباحث ) الدكتور امحمد الزرولي أصدر كتابا بالفرنسية تحت عنوان: العالم العربي: الحكامة الديموقراطية والتنمية الاجتماعية المستديمة• منشورات عكاظ• الرباط•